سميح القاسم


سيرة ذاتية
سميحالقاسم
يعد سميح القاسم واحداً من أبرز شعراء فلسطين، وقد ولد لعائلة درزية فلسطينية في مدينة الزرقاء الأردنية عام 1929، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل أن يترك الحزب ويتفرّغ لعمله الأدبي.
سجن القاسم أكثر من مرة كما وضع رهن الإقامة الجبرية بسبب أشعاره ومواقفه السياسية.
• شاعر مكثر يتناول في شعره الكفاح والمعاناة الفلسطينيين، وما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي.
• كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، ومن بين اهتماماته الحالية إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
مؤلفاته
أعماله الشعرية:
1. مواكب الشمس (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1958م).
2. أغاني الدروب (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1964م).
3. دمي على كتفي (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1968م).
4. دخان البراكين (شركة المكتبة الشعبية، الناصرة، 1968م)
5. سقوط الأقنعة (منشورات دار الآداب، بيروت، 1969م)
6. ويكون أن يأتي طائر الرعد (دار الجليل للطباعة والنشر، عكا، 1969م).
7. رحلة السراديب الموحشة / شعر (دار العودة، بيروت، 1969م).
8. طلب انتساب للحزب / شعر (دار العودة، بيروت، 1970م).
9. ديوان سميح القاسم (دار العودة، بيروت، 1970م).
10. قرآن الموت والياسمين (مكتبة المحتسب، القدس، 1971م)
11. الموت الكبير (دار الآداب، بيروت، 1972م)
12. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (منشورات صلاح الدين، القدس، 1971م).
13. ديوان الحماسة / ج 1 (منشورات الأسوار، عكا، 1978م).
14. ديوان الحماسة / ج 2 (منشورات الأسوار، عكا، 1979م)
15. أحبك كما يشتهي الموت (منشورات أبو رحمون، عكا، 1980م).
16. ديوان الحماسة / ج 3 (منشورات الأسوار، عكا، 1081م)
17. الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب (دار الفارابي، بيروت، 1981م)
18. جهات الروح (منشورات عربسك، حيفا، 1983م)
19. قرابين (مركز لندن للطباعة والنشر، لندن، 1983م).
20. برسونا نون غراتا : شخص غير مرغوب فيه (دار العماد، حيفا، 1986م)
21. لا أستأذن أحداً (رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م)
22. سبحة للسجلات (دار الأسوار، عكا، 1989م)
23. أخذة الأميرة يبوس (دار النورس، القدس، 1990م)
24. الكتب السبعة / شعر (دار الجديد، بيروت، 1994م)
25. أرض مراوغة. حرير كاسد. لا بأس (منشورات إبداع، الناصرة، 1995م)
26. سأخرج من صورتي ذات يوم (مؤسسة الأسوار، عكا، 2000م)
السربيات:
1. إرَم (نادي النهضة في أم الفحم، مطبعة الاتحاد، حيفا، 1965م)
2. إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1970م)
3. مراثي سميح القاسم (دار الأداب، بيروت، 1973م).
4. إلهي إلهي لماذا قتلتني؟ (مطبعة الاتحاد، حيفا، 1974م)
5. ثالث أكسيد الكربون (منشورات عربسك، حيفا، 1976م).
6. الصحراء (منشورات الأسوار، عكا، 1984م)
7. خذلتني الصحارى (مطبعة فينوس، الناصرة، 1998م)
8. كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه (مؤسسة الأسوار، عكا، 2000م)
أعماله المسرحية:
1. قرقاش (المكتبة الشعبية، الناصرة، 1970م)
2. المغتصبة ومسرحيّات أخرى (دار الكاتب، القدس، 1978م)
الحكايات:
1. إلى الجحيم أيها الليلك (منشورات صلاح الدين، القدس، 1977م)
2. الصورة الأخيرة في الألبوم (دار الكاتب، عكا، 1980م)
أعماله الأخرى:
1. عن الموقف والفن / نثر (دار العودة، بيروت، 1970م)
2. من فمك أدينك / نثر (الناصرة، 1974م)
3. كولاج / تعبيرات (منشورات عربسك، حيفا، 1983م)
4. رماد الوردة، دخان الأغنية / نثر (منشورات كل شيء، شفاعمرو، 1990م)
5. حسرة الزلزال / نثر (مؤسسة الأسوار، عكا، 2000م)
الأبحاث:
1. مطالع من أنطولوجيا الشعر الفلسطيني في ألف عام / بحث وتوثيق (منشورات عربسك، حيفا، 1990م)
الرسائل:
2. الرسائل/ بالاشتراك مع محمود درويش (منشورات عربسك، حيفا، 1989م)
تجربة الشاعر

سميح القاسم:
زمن الحجارة .. دراسة في شعر الانتفاضة

في (قصيدة الانتفاضة) للشاعر سميح القاسم، نقرأ خطاباً حماسياً ساخناً، يحاول به الشاعر ان يستوعب حدث الانتفاضة، من خلال اخضاعه لحالة التصادم بين الطرفين. وقد توافر القاسم في خطابه على حس ثوري متحد، حرص ان يكون بنفس درجة الانتفاضة، من حيث قوة الموقف وسرعة الحركة وسعة الآثار.

عندما نقرأ شعر القاسم في مراحله التاريخية المختلفة، وصولا الى (قصيدة الانتفاضة)، فاننا نكتشف بانه كان يسعى لتقديم اطروحة شعرية عن الثورة. ولم يؤسس هذه الاطروحة بشكل منفرد وبنظرة خاصة منطلقة من رغبة في الخروج على واقعه المرير.. او على أمنية داخلية متعلقة بحالة النصر، انما استند في ذلك على رؤية قومية تميز بها.. وتحرك من قاعدتها وعلى ضوئها في التعبير عن اطروحته الثورية التي أخذت الكثير من تفكيره واستقراءاته، وهذا ما يتضح من خلال ثبات المضامين الشعرية التي كتبها في فترات زمنية مختلفة.. حيث نجد بقاء الفكرة والموقف على ما هما عليه، دون تغير في الاسس، رغم تبدل الصورة التي تستوعب كلا منهما او كليهما. مما يشير الى عمق التصور الذي كونه الشاعر حول مسيرته.. والى ايمانه بخط التحرك الذي سلكه منذ البداية.

في بعض الفترات كانت ثمة مواقف تبدو مظلمة، حيث يسيطر احساس الانكسار على الشاعر بدرجة ملحوظة، عندما يتحدث عن واقعه، ويتنقل عبر نقاطه على مشاهد المأساة والحزن والألم. لكن اعترافاته بالهزيمة، لا تشكل انهياراً ذاتياً يجعله يسقط في حالة اليأس التام، فتتلاشى طموحاته واحلامه.. وتموت في داخله اطروحته الراسمة طريق الغد.

ان ذلك لم يحدث بهذه الصورة المخيفة.. وان ما ظهر من نتاج الشاعر في هذا الخصوص، انما مشاعر مشتركة بين كل ابناء البلاد العربية والاسلامية، تولدت عبر حقب تاريخية متلاصقة، نتيجة مواقف الهزيمة التي صنعها الحكام. ولم يعد بامكان أي انسان على هذه الخارطة المترامية، الا ان يبوح بهذه المشاعر التي تزدحم في قلبه ويعجز عن حبسها.

لقد كان القاسم يصف الواقع العربي.. يتحدث عن التردي الذي احاط به كأنسان ينتمي لفلسطين ولغير فلسطين. وكان في حديثه عن الألم يحاول ان يسحب بطريقة سرية مسمار الامان ليفجر العبوة.

وهو في هذا الاتجاه الذي يتناول فيه مظاهر الهزيمة والضعف في الواقع العربي، يقدم مظهرين متقابلين لحالة القضية الفلسطينية. وكأنه يريد ان يعلن مظلومية فلسطين على أكبر مساحة مرئية، ليثير ما يستطيع اثارته من مشاعر التعاطف، ومن ثم التفاعل معها، حتى لا تضيع في النسيان، ولتظل شاخصة أمام الأعين وحية في الضمائر.

في المشهد الأول، يقارن بين اليهود وشعب فلسطين.. بين التاريخ والحاضر. حيث يتحدث عن التيه اليهودي الذي استقر فيما بعد في فلسطين، بينما تشرد شعبها في الارض وصار هو الغريب. يقول في قصيدة (غرباء):
سنوات التيهِ في سيناء كانت أربعين
ثم عادَ الآخرون
ورحلنا.. يوم عاد الآخرون
فالى أين؟.. وحتامَ سنبقى تائهين
وسنبقى غرباء؟
وفي قصيدة (بوابة الدموع) يقدم المشهد الثاني الذي تتحرك مفرداته داخل فلسطين بشكل رئيس:
أحبابنا.. خلف الحدود
ينتظرون حبةً من قمحهم
وقطرةً من زيتهم.. ويسألون
كيف حال بيتنا التريك
وكيف وجه الأرض.. هل يعرفنا اذا نعود؟!
يا ويلنا..

امَ شعب لاجىء شريد
يا ويلنا.. من عيشةِ العبيد
فهل نعود؟ هل نعود؟
انه في المشهدين ينتهي الى تساؤلات حائرة، خالية من الجواب.. تساؤلات حول المكان والزمان والمصير، وهي أقسى مفردات الضياع والغربة، واشدها ألماً، واكثرها ضغطاً على الاعصاب.

ين نحدق فيما رسمه الشاعر، لا نملك الا ان نسلم ـ للوهلة الاولى على الأقلـ ان المأساة قد أخذت كل قلبه ومشاعره.. فسقط حائراً أو يائساً، فلم يكتشف وجهة الغربة ومحطاتها القادمة، ولم يقدّر مدتها الزمنية، ولا يستطيع ان يتكهن بالمصير. فوقف ازاء مجاهيل مظلمة.

ان بالامكان ان نقرر بصورة نهائية سقوط القاسم ضحيةً لليأس، معتمدين على الوثيقتين اللتين كتبهما بنفسه. لكن سعة المشروع الثوري الذي بلوره بتعب ودقة خلال فترة زمنية طويلة من النتاج الشعري، تجعلنا نتريث.. ونبحث في الرؤية الحقيقية التي اعتمدها في رسم اشكاله اليائسة.

لا نتردد في القول: ان الشاعر كان من الضروري ان يلجأ الى هذا الاسلوب.. ان يسلط اضواءه على جوانب المأساة الفلسطينية.. ان يظهرها للعيان بكل ما تعينه قواه. لأن ما حدث لفلسطين ليس شيئاً عادياً، ولأن فلسطين تحتاج الى تعامل حسي مرهف مع قضيتها، والى عين جوّاله في مناطق الألم، وأذن سماعة لكل آهة حزن.. انها تحتاج الى هذا وذاك حتى يمكن ان تبقى فلسطين حية في الوجدان الانساني، قضية غير قابلة للتمييع، خصوصاً وأنها مستهدفة عربياً ودولياً.. ومحاطة بقدر كبير من محاولات الاستيعاب والانهاء بالطرق المستحبة رسمياً المحرمة جماهيرياً.

لابد لأي شاعر يكتب عن فلسطين ان يحترم هذا القانون.. ان يحترم الألم الفلسطيني، من أجل ان يثبت شهادته بان فلسطين ما زالت كما هي مأساة متحركة وجرحاً ندياً نازفاً. وقد فعل ذلك كل الذين كتبوا عن فلسطين. لكن الاختلاف حصل في النسبة، فمنهم من وقف عند الجوانب الحزينة حتى صارت ابرز ملامح شعره.. ومنهم من مرّ سريعاً فترك خلفه لمسة.

ولسنا بصدد تحديد المواقع، لنضع القاسم مكانياً على هذا السلم الطويل، لكننا نجد انه التزم بالقانون الاسبق، وثبّت في الذاكرة حالة فلسطين وشعبها في اوقات الهزيمة المرة وفي سنوات المحنة الخطيرة التي تعرضت لها وما تزال.

لقد كان ذلك منذ زمن يقرب من ربع قرن، ثم عاد اليه لشاعر في فترات لاحقة من أجل ان يركز في الذاكرة ما قد تزيله السنوات.

يتألف المشروع الشعري في الثورة لسميح القاسم من ثلاثة اجزاء متميزة. يشمل الأول الدائرة الشخصية وايمانها العميق بقيم وثوابت يلتزم بها الشاعر.. ويتحرك الجزء الثاني على العلاقة الترابطية الوثيقة بين الماضي والحاضر، حيث يؤكد الشاعر القيمة التراثية الكبيرة للتاريخ ودوره الدافع للاحداث ضمن عملية صنع الحاضر، وذلك وفق منظور قومي صرف. ويشغل هذا الجزء المساحة الاكبر من المشروع.. اما الجزء الثالث فانه يتركز حول حتمية الانتصار في المستقبل، والذي جاءت الانتفاضة لتحتل موقع المستقبل الذي انتظره وبشّر به في الجزئين السابقين.

في البداية.. يثبت الشاعر قناعاته الخاصة وايمانه بالقيم المعنوية الموضوعية التي يتعامل معها بنفس حتمي، دون ان يضع احتمالا للمراجعة او اعادة النظر، بل انه يمنحها صفة القانون، ويفسر على ضوئها الاسباب ويقدم نتائج يراها منطقية للمواقف والقضايا. فنراه يتعامل مع الحياة على انها تتحدد على اساس الموقف النضالي. حيث يعتبر ان النضال هو المقياس الكبير لاستمراريتها، وبدونه تتلاشى الحياة وتنتهي، لأنها تفقد صفتها المتحركة وتتحول الى مجرد اشارات بليدة خالية المعنى.

في قصيدة (لأننا) المكونة من رباعية واحدة، يفسر الشاعر احساسه بالموت نتيجة تفتت عناصر الحياة وابرازها عنصر النضال:
أحسُ أننا نموت
لأننا.. لانتقن النضال
لأننا نعيد دون كيشوت
لأننا.. لهفي على الرجال.

انه ينظر الى حياته على انها ماضية في التلاشي لضعف الممارسة النضالية، وبروز عناصر سلبية اخرى تتعارض مع حقيقة النضال وروحيته العالية.

ان الموقف يمتلك قيمة حيوية كبيرة، بحيث يشمل الحياة على اتساعها وتعدد ادوارها، بل انه يتسع ليتجاوز دائرة الحياة نفسها، باعتباره يمثل قضية مستقلة لا تخضع لقوانين الزمن والحياة.

في قصيدة (الذي قتل في المنفى كتب لي) يتضح من العنوان ان الموت لم ينه دور المقتول، بل يستمر مع الآخرين الذين يعرفهم. مما يعني بقاء عناصر الحياة في داخله، وان الموت الذي فرضه الاعداء على السجين كان شكلياً، لأنه دون الاستلاب الروحي لشخصية المناضل.

في القصيدة يتحدث الشاعر عن قيمة التحدي، فيجعلها تمثل قيمة حية غير قابلة للحذف، رغم كل المحاولات المعادية. حيث تتزايد اساليب التعذيب حتى يموت السجين، لكنه يظل محافظاً على موقف التحدي المتمثل في (جبينه المرفوع).

قتلوني ذات يوم
يا أحبائي.. لكن..

ظل مرفوعاً الى الغربِ.. جبيني.

ان الموقف عنده أهم من الحياة، لأنه سيبقى محركاً لها، صانعاً مواقف اخرى في الطريق النضالي. فلقد توقف التعذيب وانتهت ممارسات الاعداء لحظة موت السجين جسدياً.. لكن موقفه ظل مستمراً شاخصاً في الحياة.

ويقدم الشاعر في قصيدة (رسالة من المعتقل) قناعات اضافية تسير في نفس الخط. فاذا كان في المرة الاولى قد اعتبر ان الموقف النضالي أهم من الحياة، فانه هنا يعزز الرؤية السابقة، حيث يعتبر ان الاجواء النضالية هي الوسط الذي تولد فيه الحياة.

وعلى هذا فان السجن الذي يشكل المحطة الطبيعية للمناضلين يتحول الى ساحة للولادة، وليس كما اعتادت النظرة العامة ان ترى فيه منطقة الموت والنهاية التعيسة للداخلين اليه. بل ان السجن حسب تصور الشاعر سيواجه التهديد امام الانبعاث الثوري الذي يولد في داخله.

لكني أومن يا أماه
أومن.. أن روعة الحياة
تولد في معتقلي
أومن أن زائري الأخير.. لن يكون
خفاش ليل.. مدلجاً. بلا عيون
لا بدّ.. ان يزورني النهار
وينحني السجان في انبهار
ويرتمي.. ويرتمي معتقلي
مهدماً.. لهيبة النهار!!
انها ليست أمنيات تتفاعل في نفس السجين كعزاء يومي يكرر الفاظه مع نفسه حتى لا يسقط في اليأس ويفقد معنى الحياة، كما فقد الحرية.. انها ليست كذلك، انما هي رؤية ايجابية منطلقة من قناعة الشاعر بحتمية التحول الكبير الذي سيفرض ذات يوم على الواقع، فيغير ملامح الحياة الكئيبة، مستبدلا اياها بالمظاهر المشرقة. انها حتمية انتصار الاستضعاف الذي سينهي عصر الطواغيت.

لقد ترك الواقع العربي بافرازاته المتردية عبر حقب زمنية متلاحقة، شعوراً انهزامياً في داخل الانسان، بحيث ان التخلص من آثار الهزيمة النفسية اصبح مشكلة كبيرة قائمة في الساحة، وللدرجة التي أحيطت بها محاولات الخلاص بالتشكيك والانتقاص. لأن اي محاولة لا تستطيع ان تتجاوز ركام التردي الهائل الذي نظرت اليه الأعين على انه باق لايمكن تجاوزه من خلال التوافر على احساس حماس او رغبة اصلاح.. لأن مثل هذه الأحاسيسس والرغبات تعبّأ بها الانسان العربي بعد كل نكسة وقبل هزيمة، فلم يرّ تغيراً محسوساً، انما وجد نفسه يسير في خط تراجعي مخيف. فكانت النتيجة ان فقد الثقة بامكانية الانتقال الى واقع أفضل في ظل الركود العام الذي يحكم محيطه السياسي والاجتماعي والفكري. وقد تسربت الشكوك الى نفسه، فخف عنده احساس القوة والثقة بالنفس، أو تلاشى هذا الاحساس في بعض الاوساط.

ان أخطر ما في الهزيمة النفسية، تحولها الى حالة عامة تسيطر على تفكير المجتمع. ففي ذلك اقرار بانعدام امكانية النصر، ما لم تحدث نقلة نوعية هائلة في الواقع العربي، فتقلب التصورات والرؤى، وتشكل من جديد قناعات بديلة بنفس ايجابي متطلع.

لم تكن هذه الاوضاع القاسية بعيدة عن الشاعر، فلقد عانى منها بحكم تبعيته لهذا الواقع وتأثره بحركته ومعادلاته، فتسربت اليه الشكوك وآثار الاحزان، مما اضعفت عنده بعض الشيء ايمانه بحتمية الانتصار كقضية فلسطينية. لكن منطلقاته الثابتة الصادرة من قناعاته السابقة، استطاعت ان تحافظ على معنوياته، فنظر الى ان مسألة حتمية بالنسبة للانسان.. حيث تعامل مع الجانب الاوسع للحتمية.. مع الجانب الانساني الكبير الذي لا يتحجم بدائرة الساحة العربية وخصوصيتها القومية، بل يشمل عالم الانسان كله، وعند ذاك اطمأن الى وقوع النصر ذات يوم.

م الشكّ.. ورغم الأحزان
أسمع.. أسمعُ.. وقع خطى الفجرِ
رغم الشكّ.. ورغم الأحزانِ
لن أعدم ايماني
في أنّ الشمسّ ستشرقُ
شمس الانسانِ
ناشرة ألوية النصرِ
"اكثر من معركة "
ان اطمئنان الشاعر لحتمية الانتصار، لا يعني تجمده في حدود واقعه واوضاعه وحالته الآنية. انه لا يفهم الحتمية على انها حركة تنطلق بدوافع خفية خارجة عن دائرة الفعل النضالي، انما ينظر اليها على انها مترابطة سببياً مع هذا الفعل.. فهو سببها وهي نتيجته. وعلى هذا فهو لا يعيش حالة اضطراب او فوضى داخلية، فالرؤية واضحة لعينيه.

ونفسي ـ رغم دهر البين
رغم الريح والمنفى
ورغم مرارة التش
تدرك.. تدرك الدربا!!..

"صقر قريش"
تحتل هذه الرؤية للطريق، موقع الايمان الثابت في نفس الشاعر لذلك فهو يتحرك في خطواته من نظرة يقينية تقود الى النصر المؤكد، بعد ان يوفر مقومات الخطوة المتجهة نحو الهدف.. انه يؤمن بالقدرة على صناعة المجد من خلال الفعل الثوري والممارسة النضالية. ففي قصيدة (بابل) يتحدث بحماس ثوري مرتفع النبرة، مؤكداً ايمانه بالنصر:
وأنا أومن بالحق الذي
مجده يؤخذ قسراً واغتصابا
وأنا أومن أني باعثٌ
في غدي الشمسُ التي صارت ترابا
فاصبري يا لطخةَ العار التي
خطها الأمسُ على وجهي كتابا
وانظري النار التي في اضلعي
تهزمُ الليل وتجتاح الضبابا
يستكمل الشاعر الجزء الأول من اطروحتهِ الثورية، بتحديد موقفه من الاحداث والضغوط المضادة. على اعتبار ان تحديد الموقف الشخصي يتصل في محصلته بالجو العام للتحرك النضالي، فيثري الخطوة، ويعمق الشعور بالانتصار. فلا يمكن تجريد الموقف من الصمود والارادة الصلبة على الاستمرار في النهج الثوري.. والا فان قيمته ستتلاشى دفعة واحدة وتنهار البنية النضالية عند لحظة المساومة الاولى او عند نقطه التخلي عن المقاومة، حيث تفقد المواقف الثورية عناصرها الجوهرية وتصبح مواقف اخرى غير نضالية.

وعلى هذا الاساس فان الصمود الشخصي ليس حالة فردية معزولة منحصرة في نطاق الانسان الصامد، انما هي مظهر لحالة واسعة تتسع لكل الحركة الثورية.

لذلك يصرخ الشاعر بقوة في قصيدة (خطاب في سوق البطالة).. صرخة حارة. ورغم ارتفاع نبرتها، الا انه يشعر بان صوته ما يزال خافتاً، او أنه يريد ان يسمعه كل شيء. فيؤكد موقفه الذي يكرره أربع مرات، بانه لن يساوم وسيبقى يقاوم لآخر لحظه.

بما أفقدُـ ما شئتـ معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجاراً.. وعتالا.. وكناس شوارع
ربما أبحث في روثِ المواشي، عن حبوب
ربما أخمد... عرياناً.. وجائع..

ياعدو الشمس.. لكن.. لن اساوم
والى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم!!
هنا ينهي سميح القاسم الجزء الأول من مشروعه الثوري الشعري، ليبدأ الثاني.

يشغل الجزء الثاني المساحة الأكبر من مشروع القاسم، حيث يقف وقفات عديدة ليطرح رؤاه وتصوراته عن الماضي والقيمة الحية للتاريخ. وقد بذل الشاعر جهداً كبيراً في تأكيد ارتباطه بالتاريخ واتصاله الوثيق بشخصيته. وهي محاولة واضحة لتأكيد قوميته العربية، وعمق الاحساس القومي في نفسه وذهنه.

ورغم طغيان الاتجاه القومي في العديد من قصائده، الا ان الشاعر يسيطر عليه شعور قوي بانه لم يقدم هويته بالشكل المطلوب. وقد دفعه ذلك الى اعلان هويته على هيئة صرخة عالية مباشرة في قصيدة (هكذا) حيث وضع (13) تشبيهة كمقدمة للنتيجة التي اراد اعلانها امام العالم، على انها صفة تميزه بشكل أساس:
هكذا تنبض في قلبي العروبه
ولعلنا لا نجد غير سميح القاسم من الشعراء الفلسطينيين أو العرب قد حرص بهذه
الدرجة على اظهار قوميته وبيان تفاعله العضوي معها. لكنه مع ما بذله من جهد متعب في هذا الخصوص لم يوصل ما يريد الى المستمع أو القارىء. فلقد جعل (العروبة) مثل أي مفردة أخرى يعتز ويؤمن بها.. ولم يظهرها بالصورة التي اراد لها ان تكون، حيث نلاحظ ان متبنياته الأخرى تبدو اكثر التصاقاً به من العروبة. فالنضال مثلا احتل مواقع اكثر عمقاً في نفسه من العروبة، لأنه اعطاه بعداً اكبر من الحياة.. واعتبر الموقف النضالي أبقى من الحياة. كما ان تعلقه بالنصر بدا اكثر ثباتاً في ذهنية الشاعر من العروبة حيث تعامل معه على انه مسألة حتمية لا تقبل المناقشة، وهي درجة نهائية في الايمان، لكن العروبة لم تصل عنده الى هذا المستوى.

ولا نريد من وراء هذا الحديث ان نشك في ايمان الشاعر القومي لكن الملاحظة التي نسجلها، انه لم يوظف مقدرته الشعرية في بيان فكرته بالشكل المطلوب.. او انه حاول ذلك فخانته المقدرة.

واذا كان الشاعر قد اخفق في هذه المحاولة بعض الشيء، فان استخداماته غير المباشرة في اظهار قوميته كانت ناجحة الى حد بعيد. فقد استطاع ان يرسم صورة حادة الالوان واضحة المعاني لشخصيته القومية.

عبثاً تحفر الرياح جبيني
عبثاً ينهشُ اللهيب نخاعي
هذه نبرتي وهذي ذراعي
وثيابي.. واحرفي.. ومتاعي
أنا باق.. باق أنا حيث أمضي
لم أبدل ملامحي بقناعَ
"من المدينة"
انه هنا يعرّف بثبات شخصيته العربية من خلال اعلانه المتحدي ببقاء ملامحها القومية على ما هي عليه دون ان يحذف منها شيئاً، مع ان المؤثرات التي يتعرض لها هائلة جبارة. لكن احساسه القومي اكبر منها وأقدر، فحفظ عناصر شخصيته كاملة.

وفي قصيدة (لن) ذات العنوان الرافض، يتمكن الشاعر باسلوب مركب من المباشرة وغير المباشرة ان يعطي انطباعاً دقيقاً بقوة، ارتباطه القومي عن طريق انشداده للتاريخ والدم.

قسماً.. جذرنا لن يموتا!
قسماً.. دمّنا لن يُطلاّ!!
ان تأكيده المتواصل على الاساس القومي، له مبرراته المنطقية من وجهة نظر الشاعر. فالقومية تمثل القاعدة الاساسية لمشروعه الشعري في الثورة، وهذا ما جعل المضامين القومية تحتل المساحة الأكبر من المشروع. بل ان هذا الجزء كان قومياً صرفاً في محتواه الفكري والسياسي. وهذا ما يتضح من خلال تشديده على قيمة التاريخ، باعتباره العنصر الأكبر في الهيكل القومي.

لقد حرص الشاعر على التمسك بتاريخه، لانه يجد فيه مصدراً رئيساً لبلوغ المستقبل. فهو لا يريد ان يتخذ موقفاً معزولا عن الماضي، لانه لا يريده ان يكون فاقد العمق، فيأتي فاقد التأثير.. انه يريد الموقف مكملا للخط التاريخي، متمماً لخطوات الماضي، حتى يستطيع ان يتجسد على الواقع حدثاً وموقفاً.

ما ان التاريخ يعبر عن قوة محركة للفعل الثوري، تدفع به الى الانطلاق والنمو والتكامل، ضمن ارادة ثابتة متصلة بين الماضي والحاضر.

م أسلافي القدامى لم يزل يقطر مني
وصهيل الخيل ما زال، وتقريع السيوف
وأنا أحملُ شمساً في يميني وأطوف
في مغاليق الدجى.. جرحاً يغني!!
"ما زال".

ان الشاعر يبين قوة التاريخ في التحريك، لأنه يحتل موقع الدافع الذاتي نتيجة تد اخله في الشخصية المعاصرة، كأحد عناصرها ومكوناتها الحية، مما يجعل الممارسة
الثورية موقفاً مستنداً على خلفية تاريخية، وليس صادراً من فراغ او بتأثير ردة فعل لحدث طارىء.. انها ممارسة واعية ضمن التسلسل الحضاري الممتد من القديم الى الحالي ثم القادم.

وفق هذه النظرة، لا يجد الشاعر نفسه منفصلا عن الماضي، انه ينظر اليها على انها شخصية واحدة كانت قبل قرون، وما تزال حية في الواقع، على اساس ان الشخصية القومية تتحرك على خط واحد، فهي حالة مستمرة متواصلة. وعلى هذا لا يرى الشاعر ثمة فاصلة أو فواصل بين فترات التاريخ، لأن الفصل لا يمكن ان يحدث مع الدور الواحد للشخصية الواحدة.. وهو بذلك يعبّر عن وحدة الابعاد الزمنية بلحاظها التاريخي.

في قصيدة (في القرن العشرين) يتحدث القاسم عن جانب من مشاهد التاريخ، أيام كان المسلم العربي يريد السلام لكن الظروف كانت تضطره لحمل السلاح.

نا قبل قرون
لم أتعود أن أكره
لكني مكره
أن أشرع رمحاً لا يعيى
في وجه التنين.

م يقدم صورة اكثر ثورية في الواقع الحاضر، لكن جذورها تظل مرتبطة بالزمن السابق وبالتحديد في اجزائه المتراضية:
أنا قبل قرون
ما كنت سوى شاعر
في حلقات الصوفيين
لكني بركات ثائر
في القرن العشرين!!
ان الشاعر في اعتماده الاسلوب الثوري في دوره المعاصر لا يتجرد عن خلفيته التاريخية، ولا ينظر الى أيامه السابقة التي كان فيها مجرد صوفي معزول عن الحياة، على انها فترة ضياع أو عبث او استرخاء يجب ان يتمرد عليها يطمرها في النسيان. كما انه لم يعتبر تحوله البركاني الثائر، ولادة جديدة، رغم توافر المبررات الموضوعية لهذه الولادة، من خلال الموقف الضخم الذي اتخذه والذي يختلف كلياً عن الجو السائد في الفترة الماضية.

لم يلجأ الشاعر الى أيّ من ذلك، انما طرح نفسه على انه الشخص الذي كان مسترضياً بالأمس ثم تحول الى ثائر بحكم الظروف المعاصرة المحيطة به والتي تتطلب موقفاً نضالياً بحجم المرحلة.

ويقف بنا الشاعر في قصيدة (ايها الحراس أراه حياً واقتلوني) ازاء صورة اخرى من الصور الكثيرة التي رسمها، محاولا تدعيم فكرته في قدرة التاريخ على اتخاذ الموقف المطلوب، باعتباره يمتد الى الحاضر ويؤثر فيه:
لجوادنا العربي، يصلهُ في معاركه الطويلة
ويقول: يا نار الأعاجم
أفنى.. ولا يرتد عرفي
أفنى.. ولكن لستُ أغدر فارسي، وأخون سيفي
أنا لم أزل في وجهكِ المجدورِ يا نار الاعاجم
شعباً يدافع عن حشاشتهِ.. وتاريخاً يقاوم!
ان المفردات التراثية لم تتجمد في اطار زمن محدد، ويختفي فعلها ودورها.. انما هي متجددة في أدوار متواصلة تتحرك على الارضية المعاصرة فتتفاعل مع اجوائها وظروفها، لتتخذ موقفاً ثورياً في زمن التحدي.

ويصل الشاعر الى درجة عالية من التفاعل مع تاريخه كقيمة حضارية كبرى، في قصيدة (الحاصد الأول) حيث يقول:
حفرتُ اسمي على القمه
حفرتُ اسمي وتاريخي
فقبّل نعل شمروخي
ورواد اختي النجمه
لكن تفاعله مع التاريخ لا يمنعه من تسجيل ملاحظاته الموضوعية. اذ ان تعامله القومي مع التاريخ لا يعني ان يحول نقاط الهزيمة الى نصر وان يظهر مناطق التراجع على انها محطات تقدم واندفاع. فالحقيقة التاريخية واقعة حدثت في مقطع من الزمن، ولها اسبابها وظروفها التي يتحمل اصحابها مسؤوليتهم التاريخية سواء في الفشل او النجاح.

ان احترام التاريخ والارتباط به كأساس حضاري يختلف عن نظرة القداسة التي لا ترى فيه شائبه حتى في اجزائه المتراضية. ان الايمان بالتاريخ على انه محفز قوي في دفع العملية الثورية وفي استكمال المسيرة الحضارية بشكل عام، يستدعي التعامل مع وقائعه موضوعياً، بصرف النظر عن الجوانب العاطفية التي تتحرك في داخل الانسان وتحاول ان تخفي المقاطع الحزينة تحت الضوء الساطع لمواقف المجد والبطولة.

وعلى هذا فان الشاعر يقف في اماكن عديدة يتحدث عن الانتكاسات المرة التي حدثت في التاريخ، ويحمّل الآباءـ الذين يرمزون كما يبدو من السياق الى الحكام العربـ مسؤولية ما تمر به الساحة العربية من تدهور مخيف.

يا اخوتي
آباؤنا لم يغرسوا غير الاسطير السقيمة
واليتم.. والرؤيا العقيمه
فلنجن من غرس الجهالة والخيانة والجريمة
فلنجن من خبز التمزق.. نكبة الجوع العضالِ
يا اخوتي السمر الجياع الحالمين ببعض رايه
يا اخوتي المتشردين ويا قصيدتي الشقيه
ما زال عند الطيبين، من الرثاء لنا بقية
ما زال في تاريخنا سطر.. لخاتمة الروايه
"اطفال سنة 1948"
لا يلغي الشاعر الدور الذي تلعبه الأجيال. فما تزال امامهم فرصة تاريخية، فالهزيمة التي صنعتها الحكومات ليست قدراً أبدياً تخضع له الشعوب على امتداد الزمن.. ان للاجيال جولة لا بد ان تكتب ذات يوم.

لقد تحسس الشاعر قساوة الهزيمة، فاراد ان يحجم دور الحكام الذين صنعوها، حتى لا يسيء انتماؤهم القومي، للتاريخ. لذلك لجأ في قصيدة (التعاويذ المضادة للطائرات) الى اعلان البراءة منهم، وتفززه من انتسابهم للامة:
انني أصرخ من قعر جحيمي
يا وحولا لصقت في نعلِ تاريخي العظيم
انني أحكم بالموت عليكِ
لكن سميح القاسم بسحبه الهوية القومية من الحكام العرب، تعامل مع التاريخ بطريقة مقدسة، ومنحه قدسية دون شعور منه، فابتعد عن الموضوعية التي تبناها سابقاً ولاحقاً في تقييم المسيرة التاريخية. ولعل محاولته لشن اكبر حملة تشنيع ضد الحكام، هي التي ابعدته عن الموضوعية.

ان التاريخ عبارة عن مواقف يضعها الاشخاص، لذلك لا يمكن حذف الشخص من الهيكل التاريخي، لفعله السيئ او جريمته البشعة أو حرفه لمسيرة الامة.. لأنه بما فعله من مواقف يكون قد صنع جزء من التاريخ. وقد ابتلي التاريخ الاسلامي بالكثير من هؤلاء الذين ارتبطت بهم كوارث سياسية واجتماعية مروعة انهت مراحل المجد العريض. ومع ذلك لا يمكن اعتبارهم طارئين على التاريخ، لأن معنى ذلك ان نشطب على فصول طويلة من تاريخنا.

لقد خالف القاسم قناعته بشأن التاريخ.. ويظل ذلك المقطع من قصيدته غريباً على نمط تفكيره العام، حيث نجده في قصيدة (ثورة مغني الربابة) يتحدث عن مجد الفتوحات الاسلامية في الشرق والغرب، ثم يتحدث عن التراجع الذي اصاب حركة الفتح الاسلامي، فتحول النصر الى هزيمة. مما يد فع الشاعر ان يوجه خطابه للأمة مستثيراً همتها لاعادة مجدها القديم:
يا أمتي.. قومي امنحي هذه الربابه
غيرَ البراعة في الخطابه
لحناً جديداً
امنحي الأجيال.. أمجاداً جديده
ولعل القناعة الواضحة التي يقدمها الشاعر في مجال تقييمه للتاريخ يلخصها في قصيدة (في ذكرى المعتصم) ففي مقطع (الوحدة الكبرى) ينظر الى التاريخ الاسلامي على انه ضم الموقفين السلبي والايجابي معاً:
كفى لن نقبل العذرا!
وملءُ مدارج التاريخِ
أفواج من الشهداء
وملءُ مدارجِ التاريخِ
خيلٌ خانها الفرسان
وفرسان بلا خيل
ورايات بلا شجعان.

ويقدم سميح القاسم نظرة اخرى حول رؤيته للتاريخ، تقوم على اساس ايمانه بالتطور الزمني. فهو يرى الماضي بوسائله وقوانينه لا يصلح ان يُعتمد في الحاضر.. انه فترة انتهت ولابد من التعامل مع الحاضر بتصورات جديدة تنسجم مع واقع الحياة الجديد.

والحقيقة، ان هذه النظرة لا تمثل تمرداً على الماضي، ولا هي محاولة للتجرد منه، بل هي تعكس رؤيته الحضارية للماضي، باعتباره جزء من المسيرة التاريخية الممتدة عبر الزمان بابعاده المتدرجة. فالماضي قوة دافعة أوصلت الاجيال الى الحاضر. وفي منطقة الحاضر لا يصح ان يبقى الماضي ساري المفعول، لأن في ذلك تجميداً لحركة التطور. كما ان الحاضر له دوره الخاص الذي يصنع خلاله شكل المستقبل، ثم يتحول هو الآخر الى زمن ماض. وهكذا تتعاقب الادوار في مسيرتها التاريخية الطبيعية.

يوضح الشاعر هذه التصورات في قصيدة (الميلاد)، حيث يتحدث فيها عن حجم الانجاز الذي حققه الأب عبر قرون طويلة، لكن دوره لم يعد ينسجم مع متطلبات العصر.

وداعاً يا أبي الغالي.. وداعاً يا صديق الأمس
فأن أكفّ أصحابي تدق الباب
وصوت الآله الحسناء يدعونا
لنبدأ رحلة الأجيال.. قبل الشمس.

بما يوحي استخدام دالة (الآلة) بان الشاعر انطلق في تصوره لطبيعة الدور المعاصر من خلال الجوانب التقنية الحديثة، متأثراً بخلفيته الماركسية التي تعطي للآلة دورها المؤثر. لكن الذي نفهمه ان دالة (الآلة) أوسع من ذلك حسب السياق العام للقصيدة.. واستناداً الى متبنياتهِ الثابتة بشأن التاريخ. اذ لم تتأثر نظرته للتاريخ بالفهم الماركسي، بل تختلف عنه من وجوه عديدة، تساوي الاختلاف بين القومية والماركسية. لقد ظلت نظرته للتاريخ نظرة قومية واضحة ولم تخضع للتفسير الماركسي.

ما ان (الآلة) هي أقرب الى الاستخدام الرأسمالي منها الى الماركسي، حسبما جاء في القصيدة.

ونعود الى القول، ان حكم الشاعر بنهاية دور الماضي ليس تمرداً على التاريخ. فهو في قصيدة (ذكرى المعتصم) يؤكد ارتباطه بماضيه، مسجلا لنفسه شهادة تزكية، ومقدماً دليل اثبات على تمسكه به، لئلا يُظلم فهمه:
وإن نداء أجدادي
وراء خطابي يدفعني
وريح الحزن والاشواق تحملني
الى فردوسي الغالي.

ويلخص قناعته بشأن تعدد الادوار التاريخية بشكل مكثف في قصيدة (ذكرى المعتصم) أيضاً، حيث يعبر الشاعر بوضوح عن الترابط بين ابعاد الزمن الثلاث، لتتشكل منها مسيرة متكاملة تشمل الماضي والحاضر في طريقها للمستقبل.

فان طريقنا الممتد
الى أروع ما في الغد
يجوبُ مفاوز الميراث من مولدنا الماضي
ويصعد.. عبر انقاضِ
يقبّل كل نصب المجد بين مقابر الاجداد
ويتركها.. بلا ميعاد!
لقد حرص الشاعر على اظهار القوة المحركة التي يختزنها الماضي في داخله، ولم يجعل عناصرها مقتصرة على جوانب المجد التي حفل بها، انما يعتبر حتى أجزاء المحنة، تمتلك قوة التأثير الدافعة نحو العمل النضالي. وهو بذلك يعطي التاريخ دوراً مؤثراً في الحاضر، بكل احداثه ومواقفه المفرحة والمحزنة.

في قصيدة (مازال) بعد ان يبين سميح امتداد الماضي في شخصيته، يحول المآسي التي ورثها منه الى منطلقات ثورية كبيرة:
نكبة التيه التي أودت بنا
فطرقنا في الدجى باباً فبابا
عمقّت سكينها في جرحنا
وجرت في دمنا سُماً وصابا
وتهاوينا على انقاضنا
فخرابٌ ضمّ في البؤس خرابا
انه يعطي للتاريخ دوراً داعماً للعملية الثورية، ويعتبره المصدر الاساس في الانماء الثوري.

ويكثف الشاعر قدراً كبيراً من المعاني المتعلقة بمسألة التعامل الايجابي مع محطات الانتكاسة في التاريخ، في قصيدة (حدث في الخامس من حزيران). حيث ينظر الى تلك الانتكاسة المروعة التي قتلت الثقة بالنفس عند قطاع كبير من الشعوب العربية والاسلامية، والقت ضلالا مخيفة على الواقع العربي، تحولت بسرعة الى حقائق سياسية مؤثرة على معادلة الصراع العربيـ الاسرائيلي.. ينظر الشاعر الى هذه الانتكاسة على انها لحظة ولادة جديدة للانسان العربي، لأن الهزيمة خلفت فيه رغبة التمرد الواعي على الواقع المتخلف، فولدت في اعماقه الثورة.

يذكر القارئ
أو لا يذكر القارئ
لكني، لكي يفهم كل الناس ما قلت،
أعيد:
نحن، في الخامس،
من شهر حزيران،
ولدنا من جديد!!
ان الذي يدفعه الى اعلان هذه النتيجة الخطيرة، قناعته بان الهزيمة لم تقتل مقومات الثورة.. وان الخسارة قد حدثت في موازين القوى ولم تصب مكونات الجسم العربي. واذا كانت الهزيمة قد سلبت الكثير من الواقع، فانها في المقابل خلقت الارادة الثورية داخل الانسان، والتي يمكن ان تحرك الاجزاء المتبقية عنده والمتوزعة على التاريخ والارض والهوية، كما حددها في قصيدة (اعلنها)، حيث يؤكد الشاعر فيها قوميته، ويعتبر
ان عناصر القومية مادامت باقية، فان الثورة هي نتيجة حتمية ستحدث ذات يوم:
مادامت لي من أرضي أشبار!
مادامت لي زيتونة..

ليمونه..!!
بئر.. وشجيرة صُبّار..

ما دامت لي ذكرى
مكتبة صغرى
صورة جدّ مرحوم.. وجدار
مادامت في بلدي كلمات عربيه..

وأغان شعبية!
مادامت مخطوطة أشعار
وحكايا عنترة العبسي..

وحروب الدعوة في أرض الرومان وفي أرض الفرس
مادامت لي عيناي
مادامت لي شفتاي
ويداي!
مادامت لي.. نفسي!
أعلنها.. حرباً شعواء
باسم الأحرار الشرفاء
عمّالا.. طلاباً.. شعراء
أعلنها.. وليشبع من خبز العار
الجوفُ الجبناء.. واعداء الشمسِ
بعد ان يطمئن الشاعر الى امكانية الثورة.. وبعد ان يثبت عناصرها ومستلزماتها، يقف ليوجه خطابه المتحدي لاعدائه:
يا منشئين على خرائب منزلي
تحت الخرائب نقمةٌ تتقلبُ
إن كان جذعي للفؤس ضحيةً
جذري إله في الثرى يتأهبُ
هذا أنا! عريان إلا من غد
أرتاح في أفيائه أو أصلبُ
ولأجل عينيه وأعين اخوتي
أمشي.. واعطي الدرب ما يتطلبُ
الى هنا يكون قد انتهى الجزء الثاني من المشروع الثوري الذي نستخلصه من نتاج سميح القاسم.. انه هنا يقف ازاء انطلاقه ثورية ممتدة من الماضي.. متحركة في الحاضر.. متجهة نحو المستقبل.

آخر الاجزاء في هذا المشروع هو الفعل النضالي المستمر والعملية الثورية المتواصلة التي تحدث الشاعر عنها سابقاً. وهي تتمثل موضوعياً وزمنياً بالانتفاضة الفلسطينى. وهذا ما جعل الشاعر يصعد خطابه الحماسي الى اقصى ما يستطيع بلوغه من درجات في (قصيدة الانتفاضة).

في القصيدة نلاحظ عودة المضامين الثورية التي تحدث بها في نتاجه الشعري السابق. فهو يجد في ثورة الحجارة نقطة الوصول الى الرحلة المطلوبة التي بنى من أجل بلوغها مقدمات طويلة شغلت معظم مشروعه النضالي.

ويواصل الشاعر خطابه الثوري المتحدي الغاضب مؤكداً فيه نظرته الاستشرافية للمستقبل، بان نهاية الاعداء مسألة حتمية، وهي وشيكة الوقوع.. وان نقطة النهاية هذه، هي بداية البداية للمسيرة الثورية المتصاعدة، حيث تتوافر على مقومات متجددة تشمل الانسان والارض، مما يمنح الموقف قوة اضافية على المواصلة.

يصيح كل حجر مغتصب
تصرخ كل ساحة من غضب
الموت.. لا الركوع
موت.. ولا ركوع
ولا تتوقف العملية عند هذا الحد، بل تتواصل الاضافات الداعمة، حيث يدخل المواجهة الجريح والذبيح والثاكل والميتم.. يتقدمون الى جانب الحجارة وابواب جنين ونابلس، من أجل ان تظل الثورة مستمرة كموقف تاريخي كبير.

لقد كنا نتوقع ان نجد المضامين القومية بمفرداتها البارزة متوزعة على مقاطع القصيدة، كما فعل الشاعر بكثرة في قصائده الكثيرة. لكن يبدو ان اندفاعه الشعري بنبرته الحماسية لم تعطه فرصة التطرق الى المفاهيم القومية. أو لعه وجد ان المضامين السابقة قد لخصها او تجاوزها رماة الحجارة.

نماذج من أعماله
أغاني الدروب

من رُؤى الأثلام في موسمٍ خصبِ ومن الخَيْبةِ في مأساةِ جدْبِ
من نجومٍ سهرت في عرشها مؤنساتٍ في الدّجى قصةَ حبِّ
من جنون اللّيل..من هدأتهِ من دم الشّمس على قطنة سُحْبِ
من بحار هدرتْ..من جدولٍ تاهَ..لم يحفل به أيُّ مَصَبِّ
من ذؤابات وعت أجنحةً جرفتها الريح في كل مهبِ
من فراش هامَ في زهر وعشبِ ونسورٍ عشقت مسرحَ شُهب

*** ***

من دُمى الأطفال.. من ضحكاتهم من دموع طهّرتها روحُ رَبِّ

من زنود نسّقَتْ فردوسها دعوةً فضلى على أنقاض حرب

من قلوب شعشعت أشواقها شُعلاً تعبرُ من رحب لرحب

من عيون سمّمت أحداقها فوهةُ البركان في نظره رعب

من جراحاتٍ يضرّي حقدَهـا ما ابتلى شعبٌ على أنقاض شعب

من دمي.. من ألمي.. من ثورتي من رؤاي الخضرِ.. من روعة حبّي

من حياتي أنتِ.. من أغوارها يا أغانيَّ ! فرودي كل درب

جيل المأساة



هنا.. في قرارتنا الجائعهْ هنا.. حفرت كهفها الفاجعهْ

هنا.. في معالمنا الدارساتِ هنا.. في محاجرنا الدامعهْ

نَبوخَذُ نصّرُ والفاتحون وأشلاء رايتنا الضائعهْ

*** ***

فباسمكَ يا نسلَنا المرتجى وباسمكِ يا زوجنا الضارعه

نردُّ الزمان إلى رشده و نبصق في كأسه السابعه

ونرفع في الأفق فجر الدماء ونلهمه شمسنا الطالعه !


المصادر
1- موسوعة ويكبيديا
2- الطلائع العدد 265 تاريخ 6/12/1977