الدولة العباسية


تنسب الدولة العباسية إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه و آله و سلم). وبنو العباس هم الفرع الثاني من بني هاشم، أما الفرع الأول فهم العلويون أبناء الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه. وكان لتأسيس الدولة العباسية قصة طويلة، بدأت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) عندما طالب بنو هاشم بإسناد الخلافة إلى أهل الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) وذويه، ولم يكتب لهم النجاح بإجماع المسلمين على خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه والخلفاء الراشدين من بعده. ومع هذا لم ينس بنو هاشم مطلبهم خاصة بعد أن آلت الخلافة إلى بني أمية. ومن مدينة «الكوفة» بالعراق بدأ العباسيون يخططون لدولتهم في سرية تامة وأخذوا يرسلون الدعاة إلى بلاد فارس وخراسان، وحتى لا يثيروا العلويين ضدهم نادوا في البداية بالدعوة للرضا من آل محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) وهكذا اشترك جميع بني هاشم في بناء الدولة عباسيين وعلويين، إلا أن بني العباس استطاعوا بدهائهم أن يستأثروا وحدهم بالسلطة. والحق يقال أن هناك عدة عوامل ساعدت على قيام الدولة العباسية، فإلى جانب التخطيط الجيد والسرية، أحسن العباسيون اختيار الدعاة والرجال الذين أقاموا الدولة وأذكر من هؤلاء أبا مسلم الخراساني أبرز الدعاة في خراسان، و أبا سلمة الخلال كبير الدعاة بالكوفة. وكان ازدهار الدعوة العباسية وانتشارها في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد استقرت الأمور في عهده، ولم يكن يميل إلى القسوة على بني هاشم. وظل العمل الدءوب المستمر من قبل الدعاة العباسيين حتى كانت ليلة الخميس الخامس والعشرين من رمضان سنة 129 هـ إذ ظهر العباسيون براياتهم السوداء وأعلنوا الثورة على الدولة الأموية. وانطلقت الجيوش العباسية بقيادة أبى مسلم الخراساني وقحطبة بن شبيب تزحف على ولايات الدولة الأموية وتستولى عليها، فقد دانت خراسان كلها لأبى مسلم الخراساني، ودانت الكوفة لقحطبة بن شبيب. وبمرور الوقت دانت كل المدن الأموية للعباسيين من أقصى الشرق حيث كابل لأقصى الغرب حيث قرطبة و أشبيلية مرورا بالقدس و الخليل و الرها وغيرهم.
وشهد عام 132 هـ بالتحديد حدثًا تاريخيًا كبيراً وهو سقوط دولة بني أمية لتنمو وتزدهر على أرضها شجرة الدولة العباسية. وبدأ ذلك بانتقال مؤسس الدولة أبى العباس عبد الله بن محمد -المعروف بالسفاح - ومعه الأسرة العباسية إلى «الكوفة» وهناك بايعه النقباء والأمراء بالخلافة في قصر الإمارة. ثم خرج إلى الناس فخطب فيهم وأخذ البيعة. وتم الأمر لبني العباس بمقتل مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية في جمادى الأخرة سنة 132 هـ. والآن أريد أن أحدثكم عن أمر حيرنى، فقد اختلف إخواني المؤرخون في كيفية تقسيم الدولة العباسية، فبعضهم قسمها إلى عصور قوة وضعف حسب قوة الدولة ووضعها في كل مرحلة من مراحل تاريخها، وبعضهم الأخر قسمها حسب العوامل المختلفة التي أثرت في سيرة الدولة كسيطرة الجند والقادة على مركز الخلافة أو تأثير الدول القوية على الخلفاء. ولكنى سآخذ بالتقسيم الذي استقر عليه غالبية المؤرخين وهو تقسيم الدولة العباسية إلى ثلاثة عصور رئيسية هي:
1- العصر العباسي الأول: ويمتد في الفترة من 132 هـ - 232 هـ ، وكان أقوى عصور الدولة العباسية.
2- والعصر العباسي الثاني: ويمتد في الفترة 232 هـ - 590هـ وفي هذا العصر بدأت تضيع السلطة من أيدي الخلفاء، وسيطر العسكريون على الحكم.
3- وأما العصر العباسي الثالث والأخير: فيقع في الفترة من (590 - 656هـ) وفيه انحصرت دولة الخلافة في بغداد وما حولها بينما سيطرت الدول المستقلة على باقي عواصم الخلافة. ومن خلال هذا التقسيم يسرني أن أحدثكم عن كل عصر على حدة، كأنه دولة مستقلة في فترة عمر الدولة العباسية التي استمرت من 132 هـ - 656هـ. ونبدأ من العصر العباسي الأول الذي يمتد قرنًا من الزمان منذ بداية تأسيس الدولة في عام 132 هـ إلى عام 232هـ.
وحكم في هذه الفترة تسعة فروع من الشجرة العباسية هم على الترتيب :
• أبو العباس السفاح ولى في الفترة من 132 - 136 هـ
• أبو جعفر المنصور ولى في الفترة من 136 - 158 هـ
• أبو عبد الله المهدي ولى في الفترة من 158 - 169 هـ
• أبو محمد موسى الهادي ولى في الفترة من 169 - 170 هـ
• هارون الرشيد ولى في الفترة من 170 - 193 هـ
• أبو موسى محمد الأمين ولى في الفترة من 193 - 198 هـ
• أبو جعفر عبد الله المأمون ولى في الفترة من 198 - 218 هـ
• أبو إسحاق المعتصم ولى في الفترة من 218 - 227 هـ
• أبو جعفر هارون الواثق ولى في الفترة من 227 - 232 هـ


وهو أخر خلفاء الدولة في العصر الأول وامتدت الشجرة العباسية بعده في العصرين الثاني والثالث. ويعد العصر العباسي الأول العصر الذهبي لبني العباس، فقد سيطر الخلفاء العباسيون خلاله على مقاليد السلطة، ورغم ظهور بعض الدول المستقلة وأهمها الدولة الأموية بالأندلس ودولة الأدارسة بالمغرب والدولة الرستمية في الجزائر ودولة الأغالبة في تونس، إلا أن الدولة ظلت متماسكة حتى نهاية هذا العصر. وكانت تجمع هذه الدول جميعًا راية الإسلام وتربطهم حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية التي قامت على الوحدانية المطلقة لله، والاستقامة على منهجه، وآمنت بالمبادئ الإنسانية مثل التسامح الديني والمساواة العنصرية والقيم الرفيعة مثل الأخلاق الحربية والرفق بالحيوان والوعي بالزمن، وقد أثبت التاريخ أنها حضارة إنسانية عالمية.
ونعود إلى العصر العباسي الأول وقد قلنا انه أزهى عصور الدولة العباسية ورغم ذلك فقد توقفت فيه الفتوحات الإسلامية الكبيرة ويرجع هذا إلى عدة أسباب منها انشغال العباسيين بالصراعات الداخلية مع العلويين في العراق والحجاز ومع الأمويين في الأندلس بالإضافة إلى الصراع المستمر مع الخوارج. ولا يكاد يوجد غزو أو فتوحات مهمة سوى فتح عمورية في بلاد الروم بقيادة المعتصم، وفتح صقلية بقيادة الفقيه القائد أسد بن الفرات، بالإضافة إلى فتح بعض الثغور والقرى الصغيرة في العمليات العسكرية التي كانت تسمى بـ "الصوائف و الشواتى".



والحق يقال أن عهد هارون الرشيد الذي ولى الخلافة من عام 170 هـ وحتى عام 193 هـ يعد أقوى وأزهى فترات الدولة العباسية في جميع عصورها، فقد استطاع بشخصيته القوية أن يقضى على حركات النزاع على الحكم التي تضعف الدولة، وكان الرشيد كثير الغزو لبلاد الروم مما أدى إلى تأمين الحدود الخارجية للدولة وبذلك استتب الأمن واستقرت الأحوال، ونظم العباسيون شئون الحكم وطوروا في مؤسسات الدولة التي كانت موجودة قبل ذلك فاهتموا بتنظيم الجيش وتحديد رتبه وقياداته، وكذلك الشرطة لحفظ الأمن الداخلي، وتطورت مؤسسة القضاء وأضيف إليها منصب قاضى القضاة وهو الذي كان يباشر بنفسه مع الخليفة أحكام ديوان النظر في المظالم، ونتيجة للاستقرار الاقتصادي اهتم العباسيون بتطوير دواوين الخراج والسكة.. وجعلوا الوزارة منصبا رسميا لأول مرة.
ومع استقرار الدولة بدأت تظهر نتائج الحضارة الإسلامية في العلوم والمعارف والفنون. ولكي أحدثكم عنها فسوف آخذكم في جولة سريعة لزيارة آثار العباسيين في العمارة وخاصة في مدينة «بغداد» التي بناها المنصور سنة 146 هـ والتي نشاهد فيها روائع العمارة الإسلامية في العصر العباسي الأول وخاصة «قصر الأخيضر» الذي يعد أجمل وأروع القصور العباسية ولا يضاهيه في الجمال سوى «قصر المعتصم» في «سامراء» وهى العاصمة الثانية للخلافة العباسية، وأما عن «عمارة المساجد» فنلاحظ التطور الذي حدث فيها في «المسجد الجامع» في «سامراء» والذي يتميز بتصميم فريد لم يظهر من قبل وخاصة في مئذنته الحلزونية الشهيرة، والزائر للمسجد يلاحظ تقنية الصوتيات المعمارية المتقدمة. وفي الآثار المعمارية للعباسيين نشاهد روائع الفن الإسلامي في ذلك العصر فنرى ونشاهد «التصوير الجدارى» في القصور العباسية بالإضافة إلى الزخارف الجصية من خلال فن «النحت على الحجر» برسم تفريعات نباتية ذات أوراق كبيرة كما ظهر فن «النحت على الخشب» في قطعة خشبية عثر عليها علماء الآثار في سامراء. وينسب إلى أوائل العصر العباسي مجموعة من الأواني الخزفية التي ظهرت فيها ابتكارات المسلمين في «فن الخزف».
ومن جماليات العمارة والفن إلى ثراء العلم والفكر، فمن مفاخر العصر العباسي الأول أنه ظهر فيه حشد كبير من العلماء في مختلف العلوم والفنون والآداب، ويكفي هذا العصر فخراً أنه اجتمع فيه أئمة «الفقه» الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية المعروفة وعلى رأسهم الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وفقيه «المدينة» الإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي والإمام الممتحن أحمد بن حنبل وظهرت في الفقه الإسلامي مدرستان علميتان كبيرتان هما مدرسة أهل الرأي في العراق، ومدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة. وحفل هذا العصر أيضًا بأئمة علوم القرآن وعلوم اللغة العربية فظهر منهم سيبويه والخليل بن أحمد وأبو عمرو بن العلاء والإمام الفراء والكسائي وظهرت في علوم اللغة أيضًا مدرستان علميتان هما: مدرسة «البصرة»، ومدرسة «الكوفة». وفي التاريخ ظهر أول تاريخ كامل للسيرة النبوية الشريفة في كتابي «سيرة ابن هشام» وكتاب «الطبقات الكبرى» لمحمد بن سعد. وأما عن تطور العلوم في العصر العباسي الأول، فقد انتقلت العلوم من مرحلة التلقين الشفوي إلى مرحلة التدوين والتوثيق في كتب وموسوعات، وظهرت أول مؤسسة علمية من نوعها وهى «دار الحكمة» التي تأسست في عهد الرشيد ووصلت إلى أوج نشاطها العلمي في التصنيف والترجمة في عهد المأمون، ومن الجدير بالذكر أن المسلمين لم يكتفوا بمجرد الترجمة بل كانوا يبدعون ويضيفون إلى كل علم يترجمونه وكانت «المجالس والندوات العلمية» منتدىً خصبًا للحوار بين العلماء. ومن الإنجازات العلمية المهمة في هذا العصر المرصد الفلكي الذي شيده الخليفة المأمون في بغداد،وكان أكبر المراصد الفلكية في هذا العصر، وقد عمل فيه أكبر علماء «الفلك» المسلمين وقد تمكنوا -من خلاله- من تفسير ظاهرة الجاذبية، وتعيين خط العرض وقياس طول محيط الأرض وقد ساعدهم في هذا علماء الجغرافيا و الهندسة، ولا أنسى جهود العلماء المسلمين في العلوم الطبية وخاصة علم التخدير وطب العيون.
وقد كان للعديد والعديد من العواصم والمدن الكبرى إشعاع حضاري وعلمي ذو بريق، ومنها مكة والمدينة بالحجاز، والفسطاط والإسكندرية في مصر، وفاس والقيروان بالمغرب، وحلب ودمشق في الشام، ومدن ما وراء النهر كبخارى وطشقند وخوارزم وسمرقند، ونيسابور في خراسان، وأشبيلية وقرطبة في الأندلس، بالإضافة إلى بغداد عاصمة الخلافة. وأخيراً أحب أن أشير إلى عشرات الشخصيات البارزة في العصر العباسي الأول الذين بنوا هذه الدولة وكانوا صناع حضارتها وتركوا لنا أمثلة رائدة وقدوة حقيقية في الإيمان والجهاد والعمل، ولأن الحديث عنها قد يطول ويطول. داعيًا الله عز وجل أن تستمتعوا معي بالرحلة وتأخذوا منها العبرة والفكرة والذكرى الطيبة العطرة.


إن شاء الله يعجبكم