المبحث السادس

السرقات في العصر العباسي

وفي العصر العباسي الذي يمتاز بتنوع ثقافته وكثرة معارفه وعلماءه وشعرائه وازدهار الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والسياسية
حتى كان أميز العصور الأدبية فقد وصلوا إلى قمة الحضارة العربية نجد أن السرقات قد كثرت واتسعت دائرتها كثيرا بل كثيرا جدا إلى حد لم تبلغه في العصور الماضية والسبب في ذلك أن السرقات ترتبط بالأدب ارتباطا كبيرا فتتسع وتتنوع كلما اتسع الأدب وتنوع بالإضافة إلى إن السرقات الأدبية ظاهرة طبيعية في الفكر الإنساني , فشيوعها وتعقد أنواعها إنما يتبع ارتقاء الفكر الإنساني .
وتعقده بتطور الحياة الإنسانية ولهذا أثارت السرقات في العصر العباسي حركة نقدية ضخمه تناولها النقاد بالدرس والبحث ,والفت فيها الكثير من الكتب المتنوعة ونجد الشعراء قد زادوا من هذه الدراسات عن طريق تراشق التهم بينهم وتجمع المعارضين والمؤيدين عليهم والمعتدلين كذلك , وهذه الحركات النقدية التي دارت حول شعراء هذه الفترة كانت السرقات هي محورها وهي الفيصل في الحكم على شاعرية الشاعر ..
ومن الطبيعي أننا إذا كنا قد وجدنا كثير من الروايات في العصر الأموي حول سرقات الشعراء فإن هذه السرقات ستكثر كثرة مفرطة نجدها في كتب وبحوث مستقلة بموضوع السرقات . وسنرى من هذه الروايات إن شاعرا من شعراء العصر العباسي – مهما بلغت مكانته لم يسلم من اتهامه بالسرقة في مواطن عدة عن كذبا وإن صدقا .
ومن هذه الروايات مايذكره المرزباني بأن العتابي اخذ قول بشار بن برد في قوله :

في ناظري انقباض عن جفونها وفي الجفون عن الاماق تقصير

أخذه من قول بشار:

جفت عيني عن التغامض حتى كأن جفونها عنها قصا ر
يروعه السرار بكل فج مخافة أن يكون به السرار ( 1)

واخذ منه أيضا أبو هفان عندما هجى ابن أبي طاهر :

إذا أنشدكم شعرا فقولوا أحسن الناس .

من قول بشار :
إذا انشد حماد فقل أحسن بشار ( 2)

ويقول الرواة أن بشارا حين كتب بيته :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
ويقول أبو بكر الصولي : إن جميع المحدثين قد أخذوا من بشار واتبعوه أثره ومع هذا لم يسلم بشار من الطعن عليه بالسرقة فإسحاق الموصلي يذكر عن أبي عبيده أنه انشد ابن عروة الضبعي قول بشار :
إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لم تعاتبه
فذكر انه للمتلمس وزعم آخرون انه قوله المشهور: :
إذا ماغضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما ... (3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
1- السرار مصدر سار إذ تكلم سرا مع غيره الموشح ص 389
2- مرجع سابق -الوساطة 221).
3- مرجع سابق - المثل السائر 340

الجدير بالذكر إن بعض الروايات التي ذكرت سرقات بعض الشعراء العباسيين كان مبالغا فيها كل المبالغة تماما كرواية الأصمعي التي أوردناها في قوله (أن تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة) . ومن هذه الرويات المبالغ فيها مايذكره المرزبان عن أبي مالك الحنفي اليمامي أن شعر مروان بن أبي حفصة كان يؤخذ أكثره من دعامة بن عبد الله بن المسيب الطائي اليمامي (1)
ومن الواضح إن السبب في هذه الرواية المبالغ فيها إن غاية الراوية في إعلاء شأن مواطنه اليمامي عن طريق الادعاء الكاذب على مروان بن أبي حفصة
ومن الروايات المبالغة في ادعاء السرقة مارواه أبو الفرج الأصفهاني من أن رجلا قال لبشار(:أظنك أخذت قولك :
يروعه السرار بكل أرض مخافة أن يكون به السرار (2)
من قول أشعب : مارأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء !

فقال بشار : إن كنت أخذت هذا من قول أشعب , فإنك أخذت ثقل الروح والمقت من الناس جميعا فانفردت به دونهم .(3)

وكما ذكرنا أن السرقات في هذا العصر تنوعت واتسعت باتساع دائرة الأدب فإنها لم تقتصر على سرقة الشعر فقط بل أصبحت تعتمد أيضا على سرقة الأمثال أقوال الفلاسفة والحكماء والعبارات المعتادة في المناسبات المتعددة. وكذلك الأخذ من القران الكريم والحديث الشريف
وفي هذا المجال تنسب لأبي العتاهية(4) الكثير من السرقات يقول المبرد ( وكان إسماعيل بن القاسم ( أبي العتاهية ) لايكاد يخلي شعره مما تقدم من الأخبار والمآثر فينظم ذلك الكلام المشهور ويتناوله اقرب متناول ويسرقه أخفى سرقة ...,,

ومن ذك قول أبي العتاهية :
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
إنما أخذه من قول الموبذ لقباذ الملك حيث مات فإنه قال في ذلك الوقت :
كان الملك أمس أنطق منه اليوم , وهو اليوم أوعظ منه أمس .
واخذ قوله :
قد لعمري حكيت لي غصص الموت وحركتني لها وسكنتا
من قول نادب الإسكندر فإنه لما مات بكى من بحضرته , فقال ناد به : حركنا بسكوته . (4.)
ياعجبا للناس لو فكروا وحاسبوا أنفسهم أبصروا
أغلب أبياتها مأخوذة من أقوال الحكماء .
ويؤكد هذا الاتهام صاحب الأغاني فيقول في قصيدة أبي العتاهية في رثاء علي بن ثابت :
ألا من لي بأنسك يا أخيا ومن لي أن أبثك مالديا
((هذه المعاني أخذها كلها أبو العتاهية من كلام الفلاسفة لما حضروا تابوت الاسكندر ليدفن )
ويذكر الرواة أيضا أن أبا العتاهية كثيرا ماكان ينظم أبياته من معاني القران الكريم ويضربون مثلا لذلك قوله في المهدي :
أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها
ولو رامها احد غيره لزلزلت الأرض زلزالها ..(( 5 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق – الموشح- 223
2- ديوانه ص 433
2- مرجع سابق - مشكلة السرقات -ص 33
4- الحركة النقدية على أيام ابن الرشيق المسييلي – د بشير خلدون – ط1- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر – 1981 م. 234
5- مرجع سابق - مشكلة السرقات 34


على أن هذه السرقات جميعها لم تكن في نطاق حركة نقدية متركزة حول احد الشعراء ’ ولكنها راويات مفردة يستدل بها النقاد على حدوث السرقات في العصر العباسي , أو يستدلون بها على أنواعها المتباينة في ذلك العصر . ولكن حين جاء أبو نواس(1) واستحدثت في الشعر طرائق جديدة سوف تتناولها فيما بعد بالتحليل أو التفصيل سلط عليه النقاد دراستهم وانقسموا فريقين مؤيد ومعارض ومن هؤلاء المؤيدين من تعصب له على باقي شعراء عصره ومن المعارضين من تعصب عليه وتغالى في ادعاءاته يقول مهلهل أن يموت في ذلك ( ورأيت من الناس كل من تعصب لشاعر من الشعراء قصد أخر بالعيب والإزراء على مقدار الشهوات ومكان العصبيات يختص واحد منهم شاعر بالمناقب فيعارضه آخر بإحالتها إلى المثالب كل عبد شهوته وخادم عصبيته )(( سرقات أبي نواس )(2)

ومن هؤلاء المتعصبين على أبي نواس من قال ( الشعر بين المدح والهجاء وأبو نواس لايحسنهما وأجود شعره في الخمر والطرد وأحسن مافيهما مأخوذ مسروق , وحسبك من رجل يريد المعنى ليأخذه فلا يحسن أن يعفى عليه ولاينقله حتى يجيء به نسخا )) الموشح ( أبي نواس ))(3)

ويذكر هؤلاء المتعصبين أمثله كثيرة لهذه السرقات منها قوله :

( وداوني بالتي كانت هي الداء )
فهو مأخوذ من قول الأعشى :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها ) ( 4 )
وقول أبي نواس
( كان الشباب مطية الجهل )
مأخوذ من قول النابغة :
( فإن مطية الجهل الشباب ) (5)
وقول أبي نواس :
كطلعة الأشمط من جلبابه )
مأخوذ من قول أبي النجم :
(كطلعة الأشمط من كسائه)

وقد اتفق الكثير من الرواة والنقاد د على أن أبا نواس كثيرا ماكان يأخد أبياتا من الحسن بن الضحاك .
فمن ذلك ماقاله الحسين نفسه : أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها :
كأنما يعب في كأسه قمر يكرع في بعض أنجم الفلك
قال فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها :
إذا عب فيها شارب القوم خلته يقبل في داج من الليل كوكبا

قال : فقلت له : يا أبا علي هذه مصالته ! فقال : أتظن أن يروى لك في الخمر معنى جيد وأنا حي ؟!(6)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق – مشكلة السرقات - مصطفى - ص 34
2- -أبو نواس (145هـ-198هـ) شاعر عباسي، ولد في الأهواز، فارسي الأصل، عربي الولاء. اتصل بالبرامكة فأفاد منهم. واتصل بهارون الرشيد، ثم قصد الخصيب والي مصر مادحاً. ولما أصبح الأمين خليفة جعله شاعره الخاص. الموشح ص
3- مرجع سابق - الموشح 398
4- مرجع سابق- الموشح 254 - انظر الوساطة
5- ديوانه ص
6- ويقول ابو بكر الباقلاني في هذه السرقة ( أما الخليع فقد رأى الابداع في المعنى فاما العبارات فانها ليست على ما اظنه لان قوله يكرع) ليس بصحيح وفيه ثقل وتفاوت بين وفيه احالة لأن القمر لايصح تصورا ان يكرع في نجم ..(اعجاز القران 337)


ويذكر ابو حاتم السجستاني أن أبا نواس قد سرق في قصيدته التي مطلعها :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
أكثر معاني قصيدة الحسين بن الضحاك التي مطلعها :
بدلت من نفحات الورد بالا ومن صبوحك در الإبل والشاء (1 )

ويذكر الرواة أن الحسين لما خاطب أبا نواس في ذلك قال له : ومتى ستعلم لمن يرويها الناس , إلى أم لك ؟ يقول الحسين : فكان الأمر كما قال . رأيتها في دفاتر الناس في أول أشعاره .
وإذا كان أبو نواس قد احدث حركة نقدية نشطة في ميدان السرقات فإن أبا تمام والبحتري كانا مبعث حركة نقدية أخرى أكثر نشاطا من سابقتها بقدر ما أحدثنا في ميدان الأدب بشعرهما من جدال وخصومات وبقدر ما انقسم الناس حيالهما فريقين : مؤيدين ومعارضين ومهاجمين ومدافعين . وقد كان لاختلاف مذهبي أبي تمام والبحتري في شعرهما الأثر الأكبر في هذا الجدال وتلك الخصومة التي انشات حول الشاعرين فقد وجد كل مذهب أنصاره ومعارضيه , ووجد الذوق الذي يتشربه والذوق الذي يمجه وكان طبيعيا أن يكون اتهام كل من الشاعرين بالسرقة على قدر الخصومة التي أحدثاها بين النقاد , تماما كما رأينا في عرضنا التاريخي لسرقات جرير والفرزدق في العصر الأموي وسنجد أيضا في الرويات التي تتعرض لسرقات البحتري وأبي تمام مغالاة شديدة وتعنتا قبيحا تغذيه حركة الخصومة حول الشاعرين
فنرى الامدي يقول ( الذي خفي من سرقاته أكثر مما قام منها على كثرتها !!))

ومن الشعراء الذين اخذ منهم أبو تمام .
الكميت الأكبر :
ولاتكثروا فيه اللجاج فانه محا السيف ماقال ان داره اجمعا (2)

أخذه أبو تمام فقال :
السيف اصدق أنباء من الكتب (3)

وقال النابغة يصف يوم الحرب(4) :

تبدو كواكبه والشمس طالعة لاالنور نو ولا الإظلام إظلام
أخذه أبو تمام
ضوء من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد افلت والشمس واجبة من ذا , ولم تجب (5)
وقال الأعشى
وإن صدور العيس سوف يزوركم ثناء على أعجازهن معلق
أخذه أبو تمام فقال
من القلاص اللواتي في حقائبها بضاعة غير مزجاة من الكلم (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
1- مرجع سابق – الصناعتين -192
2- كان ابن دره وهو سالم بين مسافع بن عقبة بن يربوع – قد هجا فزارة هجاء مقذعا فبلغ هجاءه زميل بن ابير احد بني عبد الله بن ناف الفزاري ,فحلف آلا ياكل لحما ولايغسل راسه ولا يأتي امراه حتى يقت لابن دارة . ثم امكنته فيه الفرصة فقتله وي مقتل ابن دارة يقول الكميت بن ثعلبة هذا البيت وهو الكميت الاكبر( الموازنة ص 52.
3- ديوانه 342
4- وذكر صاحب الصناعتين ص197 أن النابغة اخذ هذا البيت من قول وهب ابن الحارث بن زهره
5- في ذكر ضوء النهار وظلمة الدخان في حريق - الموازنة ص 53
6- مرجع سابق - الموازنة 54 - البيت من قصيدة يمدح فيها مالك بن طوق أولها سلم على الربع من سلمى بدي سلم عليه وسم من الأيام والقدم


وقال البعيث :
وإنا لنعطي المشرفية حقها فتقطع في إيماننا وتقطع

أخذه أبو تمام فقال :
فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة فقطعها ثم انثنى فتقطعا

وقال أبو تمام :

وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تسطو غياهبه
لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه (1)

أخذ صدر البيت الأول من قول كثير : وركب كأطراف الأسنة عرجوا قلائص في اصلابهن نحول
واخذ معنى البيت الثاني من قول الآخر :
غلام وغى تقحمها فأبلى فخان بلاءه الدهر الخؤون
فكان على الفتى الاقدام فيها وليس عليه ماجنت المنون

وقال ابو تمام :
والشيب ان طرد الشباب بياضه كالصبح احدث للظلام افولا

اراد قول الفرزدق :
والشيب ينهض بالشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار(2)

سئل دعبل عن أبي تمام فقال ثلث شعره سرقة وثلثه غث وثلثه صالح ((3)
وعن موسى بن حماد قال : كنت عند دعبل .. فذكرنا أبا تمام فجعل يثلبه ويزعم انه يسرق الشعر .. وانه سرق قصيدة مكنف أبي سلمي من ولد زهير ابن أبي سلمى في رثاء ذفافة العبسي :
أبعد أبي العباس يستعذب الدهر ومابعده للدهر حسن ولاعذر
ألا أيها الناعي ذفافة والندى تعست وشلت من أناملك العشر
أتبغني لنا من قيس عيلان صخرة تفلق عنها من جبال العدى الصخر ((4 ) مشكلة السرقات الأدبية مصطفى 38 )

ثم قال دعبل سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة فأدخلها في شعره .

وليس دعبل وحده الذي يهاجم أبو تمام ويتتبع سرقاته بل إن كثيرا من النقاد فعلو ذلك أيضا فالمرزباني يقول ( وللطائي – يقصد أبا تمام – سرقات كثيرة أحسن في بعضها وأخطأ في بعضها الآخر . ولما نظرت في الكتاب الذي ألفه في اختيار الأشعار وجدته قد طوي أكثر إحسان الشعراء وإنما سرق بعض ذلك فطوى ذكره , وجعل بعضه عدة يرجع إليه في وقت حاجته , ورجاء أن يترك أكثر أهل المذاكرة أصول أشعارهم على وجوهها ). الموشح
ويذكر ابن الرشيق أيضا أن أبا تمام كان يسرق شعر ديك الجن يقول : (( وديك الجن وهو شاعر الشام – لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازا وهو أقدم منه . وقد كان أبو تمام اخذ عنه أمثلة من شعره يحتذى عليها فسرقها ). (5)العمدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
1- مرجع سابق – العمدة - 287
2- مرجع سابق – الموشح – ص 200
3-مرجع سابق – مشكلة السرقات – مصطفى 38
4- هامش الموشح ص ((..الموازنة قال ثلث شعره محال وثلثه مسروق وثلث صالح ))
5- مرجع سابق – العمدة 278




هذه هي بعض هجمات المتعصبين على ابي تمام مع انه ينفي السرقة عن شعره فيقول في قصيدة له :
منزهة عن السرق المورى مكرمة عن المعنى المعاد

وعلى الرغم من ذلك نجد أن سرقات أبي تمام كثيرة متنوعة لايستطاع إنكارها كما انه ليس في المستطاع إنكار بدائعه ,
وقد كان موقف النقاد من البحتري شبيها إلى حد كبير بموقفهم من أبي تمام , فهناك المتغالون المتعصبون عليه كابن أبي طاهر الذي ادعى انه اخرج للبحتري ستمائة بيت مسروق منها ما أخذه من أبي تمام خاصة مائة بيت ) (1)

وموضع سرقة البحتري من أبي تمام يؤكده أغلب النقاد ولهم على ذلك أدلة عملية وكثيرا ماهوجم البحتري من هذه السبيل , فالامدي يقول إن ( من أقبح المساوئ أن يعتمد الشاعر على ديوان رجل واحد من الشعراء فيأخذ من معانيه ما اخذ البحتري من أبي تمام ولو كان عشرة أبيات فكيف والذي أخذه منه يزيد على مائة بيت !!)( 2 )

ومن المتعصبين على البحتري أيضا أبو الضياء بشر بن تميم الكاتب , وقد استقصى سرقات البحتري ( حتى جاوز ماليس بمسروق ) كما يقول الامدي ويقول في موضع آخر ( إنه ل يقنع بالمسروق الذي يشهد التأمل الموازنة

الصحيح بصحته حتى تعدى ذلك إلى التكثير والى أن ادخل في الباب ماليس منه ) (3)

هذا مع أن البحتري يقول إن الشعراء يسرقونه ويهاجمهم لذلك فيقول (4)

رمتني غواة الشعر من بين مفحم ومنتحل مالم يقله مدعي
ويروي النقاد د مثالا يصدق قول البحتري فهم يذكرون أنه حين كتب قصيدته في أبي العباس بن سطام والتي أولها :
من قائل للزمان ما أربه في خلق منه قد خلا عجبه
عارضه فيها أبو احمد عبيد الله بن طاهر بقصيدة يمدح بها الموفق أولها :
أجد هذا المقام أم لعبة أم صدق ماقيل فيه أم كذبه
فاستعار من ألفاظها ومعانيها ما أوجب أن قال البحتري فيه :
ما الدهر مستنفذ ولاعجبه تسومنا الخسف كله نوبه
نال الرضا مادح وممتدح فقل لهذا الأمير ما غضبة
أجلى لصوص البلاد يطردهم وظل لص القريض ينتبه
اردد علينا الذي استعرت وقل قولك يعرف لغالب غلبه ,,, (5)

وعلى الرغم من هذا كله يهاجم النقاد البحتري ويتهمونه بسرقات كثيرة .
ومن هذه السرقات سرقته من أبي تمام تلك التي يؤكدها النقاد والرواة – قوله
وسألت من لايستجيب فكنت في استخباره كمجيب من لايسأل

أما بيت أبي تمام فهو قوله :

فواء إجابتي غير داع ودعائي بالقفر غير مجيب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ1- مرجع سابق – الموازنة – ص 55
2- المرجع السابق – ص56
2- المرجع السابق –ص56
3- المرجع السابق - ص57
4- : يقول ابن رشيق انه قسمهم ثلاثة أقسام : مفحم قد عجز عن الكلام فضلا عن التحلي بالشعر غير انه يتبع الشعراء , والآخر منتحل لأجود من شعره , الثالث مدع جملة لايحسن شيئا هامش العمدة 334
5- مرجع سابق - مشكلة السرقات - ص 51
واخذ من بيت أبي تمام :

رأيت رجائي فيك وحدك همه ولكنه في سائر الناس مطمع الورد (1)

فقال البحتري (2
ثني أملي فاختاره عن معاشر يبيتون والآمال فيهم مطامع

قال أبو تمام : (3)
وقد قرب المرمى البعيد رجاؤه وسهلت الأرض العزاز ركائبه
فقال البحتري :4
أدار رجاه فاغتدى جندل الفلا ترابا وقد كان التراب جنادلا من قصيدة له يمدح فيها محمد بن يوسف والجندل ههنا الصخر

وقال أبو تمام (:5)
رافع كفه لسبري فما احسبه جاءني لغير اللطام من قصيدة له يمدح فيها سليمان بن نصر واللطام المضاربة على الخد

وقال أبو تمام :6)

فوفرت يافوخ الجبان على الردى وزدت غداة الروع في نجدة النجد
هامش.

فقال البحتري( 7):

ويغدو ونجدته في الوغى تدرب نجدات فرسانه .

وقد اعقبت الحركة النقدية التي أحدثها البحتري وأبو تمام حركة نقدية أخرى كان المتنبي صاحبها وكان موضوع السرقات هو الجانب الأساسي فيها تماما كالحركات النقدية التي سبقتها .
وقد ظهر المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس كما يقول الثعالبي . ونشط النقاد في تتبع محاسنه أو مساوئه أو التوسط بينه وبين مخاصميه. ولعل الحركة النقدية التي أحدثها المتنبي تعد أضخم الحركات التي مرت بنا في تاريخ النقد العربي يشهد على ذلك الكم الهائل من الدراسات والبحوث التي قام بها العلماء الذين عاصروه والذي جاءوا من بعده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
1- مرجع سابق - الموازنة ص 288 ,,الورد الأسد الذي لونه لون الورد الذي يشم.
2- من قصيدة له يمدح فيها الفتح بن خاقان.
3- من قصيدة له يمدح فيها أبا العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب العزاز الأرض الصلبة
4- من قصيدة له يمدح فيها محمد بن يوسف والجندل هنا الصخر
5- من قصيدة له يمدح فيها سليمان بن نصر واللطام : المضاربة على الخد
6- من قصيدة يمدح فيها حفص بن عمر الأزدي ووثرت : ثبت واليفوخ مابين عظم الجبهة والجدارن من الرأس والمراد بهذه العبارة انه شجع الجبان على اقتحام الاهوال والردى الهلاك والنجد الشجاع يعني انه كان كثيرا للجبان حتى تشجع ومعينا للشجاع ليزداد في اقدامه
7- من قصيدة له يمدح فيها احمد بن سلمان بن اخت أبي الصقر... الوغى : الحرب .


ولئن كنا قد رأينا من قبل تغاليا في الروايات التي تتناول سرقات أحد شعراء الكبار الذين عرضنا لهم في هذا المبحث فاننا سنجد في الروايات التي تناولت سرقات المتنبي مغالاة فاقت الحد والسبب في ذلك هي مكانة المتني العظيمة التي احتلها بين أدباء عصره وهذه المكانة أوغرت صدور كثير من النقاد والشعراء فحاولوا هدم أدبه بدافع الغيرة والباطل في ثوب العلم والتحري عن الحقائق .

وأول المهاجمين للمتنبي هو أبو القاسم اماعيل بن عباد الذي إلف رسالة موضوعها ( الكشف عن مساوئ شعر المتنبي ) ويتهم فيها المتنبي لابسرقة الشعر القديم فحسب , بل انه يغير أيضا على شعر المحدثين ويدعي الجهل بهم .
والسرقة ليست اتهاما عند الصاحب ولكن نكرانها هو موضع الاتهام ( فأما السرقة فما يعاب بها الاتفاق شعر الجاهلية عليها , ولكن يعاب إن كان يأخذ من الشعراء المحدثين – كالبحتري وغيره – جل المعاني , ثم يقول : لا اعرفهم ولم أسمه بهم , ثم ينشد أشعارهم فيقول ك هذا شعر عليه أثر التوليد !).

ومن الذين هاجموا المتنبي من هذه الناحية أيضا أبو سعيد محمد ابن احمد العميدي صاحب كتاب ( الإبانة عن سرقات المتنبي لفظا ومعنى ) فهو يقول عن المتنبي : ( ولقد تأملت أشعاره كلها فوجدت الأبيات التي تفتخر بها أصحابه وتعتبر بها آدابه من أشعار المتقدمين منسوخة ومعانيهم من معانيهم المخترعة مسلوخة )


ومن المعروف أن اتهام المتنبي بسرقة أشعار الطائيين وعلى الأخص شعر أبي تمام اتهام شائع بين الكثير من النقاد, وقد أوردوا على ذلك الكثير من الشواهد
يقول الجرجاني في الوساطة ( وقلت إنما عمد إلى شعر أبي تمام فغير ألفاظه , وأبدل نظمه , فأما المعاني فهي
تلك بأعيانها أو ماسرقه من غيرها) .(2)

ومن الشواهد التي استشهد بها الرواة في سرقات المتنبي
قول أبي تمام

ولولم يكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله
فقال أبو الطيب :
يأيها المجدي عليه روحه إذ ليس يأتيه لها استجداء (3)

قال أبو تمام :
لوحار مرتاد المنية لم يجد إلاالفراق على النفوس دليلا

قال أبو الطيب
لولا مفارقة الأحباب ماوجدت لها المنايا إلى أروحنا سبلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق – مشكلة السرقات - ص 56
2- مرجع سابق - الوساطة ص179 .
3- إعطاءه العفات جمع عاف هو الفقير السائل وهو طالب المعروف
ويقول صاحب الوساطة (( وبيت أبي تمام املح لفظا واصح سبكا وزاد أبو الطيب بقوله انه يجدي عليه روحه ..ولكن في اللفظ قصور والأول نهاية الحسن ثم نقل المعنى عن الروح إلى الجسد فقال :
أو اشتهت لحم قاربها لبادرها خرادل منه في الشيزي وأوصال (( القاري المضيف حرادل بالذال والدال القطع ,,والأوصال جمع وصل وهو كل عظم لايكسر ولايخلط به غيره الشيزى جفان تصنع من خشب اسود
وهذا هو الأول فمن جاد بأوصاله فقد جاد بروحه .



وقال الأعشى

لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر

وقال أبو الطيب :
فذقت ماء حياء من مقبلها لو صاب تربا لاحيا سالف الأمم ..1
(( كل ماسبق الوساطه ص 224-225))
ويقول ابن الأثير أن بيت المتنبي فيها :
لم يسلم الكر في الأعقاب مهجته إن كان أسلمها الأصحاب والشيع

مأخوذ من بيت أبي تمام في قصيدته تلك :

ماغاب عنكم من الأقدام أكرمه في الروع إذ غابت الأنصار والشيع 2

ويذكر النقاد انه قد سرق من قول جرير
فلا يمنعنك من ارب لحاهم سواء ذو العمامة والخمار

وبيت المتنبي
مابال هذي النجوم حائرة كأنها العمى مالها قائد

مأخوذ من قول العباس بن الأحنف :
والنجم في كبد السماء كأنه أعمى تحير مالديه قلائد



ولعل المتنبي كان أكثر الشعراء استهدافا لاتهامه بسرقة معانيه من أقوال الفلاسفة والحكماء حتى إن أبا علي محمد بن الحسن الحاتمي قد كتب رسالة خاصة في ذلك .أورد فيها من معاني المتنبي ماجاء موافقا لقول ارسطو في حكمته ولم يكن هدفه من ذك التجني على المتنبي ( ولكن ليستدل بها على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة ) كما يقول..
وقد أورد الحاتمي خمسين حكمة لأرسطو وما يقابلها في شعر المتنبي , فمن ذلك قول ارسطو (آخر التوقي أول موارد الحتوف ) وقول المتنبي :
وغاية المفرط في سلمه كغاية المفرط في حربه ..4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق - الوساطه ص 224-225
2- المرجع السابق 226
3-ويعقب ابن الأثير على هذه السرقة بقوله (( وليس في السرقات الشعرية أقبح من هذه السرقة فإنه لم يكتف الشاعر بان يسرق المعنى حتى ينادي علي نفسه انه قد سرق )) المثل السائر.
ويعقب القاضي الجرجاني على هذه السرقة فيقول ( وهذا من أقبح مايكون من السرق لانه يدل على نفسه باتفاق المعنى والوزن والقافية
4- ويعقب الثعالبي على هذه السرقة بقوله (وهذه مصالته لاسرقة وهي مذمومة جدا عند النقاد ).



المبحث السابع
السرقات في العصر الحديث :
السرقات في الفكر النقدي الحديث تهتم بالكليات، فالنقاد الغربيون لا ينظرون إلا في السرقات من الجانب الكلي أي النص بكامله أو بتحوير طفيف، عكس النقاد العرب المتقدمين، الذين كانوا يركزون على السرقات الجزئية لندرة وقلة السرقات في جانبها الكلي، وفي عصرنا هذا أصبحت السرقات على مستوى المعاني والجمل لا تكاد تأخذ حيزا كبيرا في الفكر النقدي، اللهم ما ندر على مستوى التناص، والذي أصبح يدرج ضمن الوظائف الجمالية لا السرقات الأدبية، ويقول محمد مندور: "وأخيرا هناك السّرقات، وهذه لا تطلق اليوم إلاّ على آخذ جمل أو أفكار أصلية، وانتحالها بنصّها دون الإشارة إلى مأخذها، وهذا قليل الحدوث في العصر الحديث، وبخاصّة في البلاد المستنيرة " ، فالنقد الحديث لا يولي أهمية لسرقة تتم على مستوى الجزئيات، والاهتمام البالغ هو حول السرقة المجملة، وإن كنا نجد في النقد التناص اهتماما ببعض الجزئيات، ولكنها لا تنزل إلى مانزل إليه النقد القديم إلى أبسط المعاني.
ونجد محمد مندور يضع حدودا للسّرقة لكنّها أقل مما قلناه عند العلماء المتقدمين، ويصنفها إلى
(استيحاء، استعارة الهياكل، التّأثر، السّرقة)
- "الاستيحاء: وهو أن يأتي الشّاعر،أو الكاتب بمعان جديدة تستدعيها مطالعاته فيما كتب الغير.
- استعارة الهياكل: كأن يأخذ الشّاعر أو الكاتب موضوع قصيدة، أو قصّة من أسطورة شعبية،أو خبر تاريخي،ويبعث فيها الحياة في هذا الهيكل حتّى ليكاد يخلقه من العدم.1
- التّأثّر: وهو أن يأخذ شاعر، أو كاتب بمذهب غيره في الفنّ، والأسلوب، ولقد يكون هذا التّأثّر تتلمذا، كما قد يكون عن غير وعي، إنّما النّقد هو الذي يكشف عنه.
- وأخيرا هناك السّرقات، وهذه لا تطلق اليوم إلاّ على آخذ جمل أو أفكار أصلية، وانتحالها بنصّها دون الإشارة إلى مأخذها، وهذا قليل الحدوث في العصر الحديث،وبخاصّة في البلاد المستنيرة" .2
فالسّرقة في النّقد العربيّ القديم كانت في أخذ الألفاظ، والمعاني حتّى وإن حورت قليلا أو كثيرا، أو أخذ المعنى بلفظه، أما في عصرنا هذا فحسب محمد مندور، وهو ما نراه أنّ السّرقة أصبحت لا تسمّى سرقة أدبيّة إلاّ بأخذ العمل كلّه، أو تحويره قليلا من قبيل الانتحال والسّرقة لا على طريق الاقتباس المشروع، والّذي يدلّ على صاحبه،ويستأذن منه في ذلك.
أما محمد مفتاح فإنّه يضع مفاهيم (التّطابق، التّحاذي، التّداخل، التّفاعل، القلب)،كمفاهيم ذات وظائف جمالية وإيديولوجية، وهي ستتركنا نعتبر أنّ ما استند إليه الشّاعر ليست نقولا مبعثرة هلهلت نسيج الكتاب، وهي تبرير لهذا
2- "التّحاذي: [ومعنى هذا أنّ النّصوص السّابقة تكون] متحاذية مع نصّ الشّاعر،أو نصّ غيره،وقد تكون في البداية، أو الوسط،أو النّهاية، ومقياسه هو أنّ النّصّ الّذي جيء به ليحاذي غيره يحافظ عليه كما هو في أصله بدون تبديل أو تغيير أو تحويل أو حذف" .
3- "التّداخل: ونعني به تداخل نصوص الآخرين مع نصوص الشّاعر مع تغييرها، وتبديلها، وتحويلها،والحذف منها، وقد تحتل فضاء معيّنا في النّصّ،وقد تكون مثبتة في فضائه كلّه" ..3








ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ


1- ـ النقد.. والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب ـ محمد عزام - وزارة الثقافة ـ دمشق 1996- ص 33
2- النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي – محمد عزام – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2001-ص 57
3-المرجع السابق 58ص



- "التّفاعل: هذا النّوع من التّداخل إلى أقصى صوّره إلى تفاعل النّصوص بدمج بعضها في بعض حتّى تستحيل تلك النّصوص إلى نصّ واحد متماسك متّسق، ونستطيع أن ندرج هذا التّفاعل إلى درجتين على الأقلّ:
 أوّلهما تفاعل مزدوج: ونعني به تفاعل الشّاعر مع كاتب آخر حتّى يصيرا كأنّهما واحد.
 ثانيهما تفاعل متعدّد: أي تفاعل نصوص الشّاعر مع النّصوص المتعلقة بموضوعة الحب" أي كلّ النّصوص التي لها علاقة بالحبّ على تعدّد قائليها.
5- "القلب: الرّسام أو الشّاعر في كتاب الحبّ هدفا إلى تبليغ رسالة تصوّر وضعا مقلوبا فيتبين هذا الوضع المقلوب بالمقارنة بين الرّسمين الأوّل والأخير،والقصائد الأولى والقصيدة الأخيرة إنّها رسالة عن انقلاب،وتبدّل الأحوال" 1

ويشير محمد مفتاح إلى أنّ المفاهيم (التّطابق، التّحاذي، التّداخل، التّفاعل) لو اعتمد عليها الشّاعر لكانت رسالة عملها محدودة القيمة، ولتماثل عملها مع الأعمال القديمة، والحديثة، ويعطي أهمية لعملية القلب ،وما نعقب به على القول الأخير القائل بأنّ القلب له أهمية أكثر من التّطابق، والتّحاذي، والتّفاعل، والتّداخل، فمحمد مفتاح أهمل جانبا مهمّا، وهو أنّ الشّاعر إذا عمل بمفهوم القلب، وتبعه كلّ الشّعراء بهذا المفهوم، فإن أعمالهم تقع متطابقة،فمثلا الجيل الأول قال معنى، الجيل الثاني يقلبه، الجيل الثالث يقلب معنى الجيل الثاني، وهنا يتطبق معنى الجيل الثالث والجيل الأول وهكذا دواليك، وما قلناه عن الأجيال يقال عن الكتاب في عصر واحد أو أعصر متباعدة، أمر آخر هنا وجب ذكره وهو أنه وفق مبدأ محمد مفتاح الكتاب والشعراء سيقلبون معنى واحدا، أو غيره، فستتطابق حتما هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ القلب لمفهوم سيقع في تطابق مع نصّ أو نصوص هي عكس النّصّ المقلوب الأصلي، وهو ما سيجعل التّطابق بالقلب إن صّح التعبير عملية دورية قد يكون طول موجتها جيل أو أقل، وهذا بالتّعبير الرياضي والفزيائي، وندرج ما قاله محمد مفتاح في خانة التّبرير عند الأخذ لا أكثر، وتطابق النّصوص والتّعابير.
وما قاله محمد مندور، ومحمد مفتاح في تقسيمات السرقات الأدبية لا يخرج لما قاله النقاد المتقدمون العرب، بل هو وجه من أوجه اختصارها فقط، ويمكن للقارئ المقارنة بينها وبين ما أوردنا من تقسيمات عند النقاد المتقدمين.
وفي عصرنا الحالي أصبح السّارق الأدبيّ لا يختلف عن سارق الذّهب والمال، وقد يعاقب بغرامة أو ما وضعه القانون من مواد لمعاقبته إذا أدين، وأصبح بإمكان صاحب النّصّ الأصلي أن يجرّ من رآه تعدى على نصّه إلى المحاكم، وأصبح ما يعرف بحقوق الملكية الفكرية، وديوان يحفظ هذه الحقوق، وهناك دواوين خاصة بالملكية الفكرية، وتمنح شهادات تؤكد ملكيتها لصاحبها، وكأنها عقار أو مال،...، أو غيرها من الملكيات العينية، وإن رأى صاحبها الاعتداء عليها بالاقتباس دون إذن أو أخذها بتحوير ولو كان طفيفا، أو توظيف جزء من الفكرة،...، فله أن يطالبه في المحاكم،.2
وحل التناص في الفكر النقدي الحديث محل السرقات الأدبية، " وجذور التّناصّ ترجع إلى مفهوم الحوارية التي وضعها النّاقد الرّوسي ميخائيل باختين- 1975م)، وكان قد وضع هذا النّوع في العقود الثّلاثة الأولى من القرن الماضي ، فلقد وجدنا عدة تعاريف ومنها تعريف الدكتور سمير سعيد حجازي الذي عرفه بقوله :" التناص هو مفهوم يدل على وجود نص أصلي في مجال الأدب والنقد أو العلم على علاقة بنصوص أخرى وأن هذه النصوص قد مارست تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على النص الأصلي في مرحلة تاريخية محددة" ، وعرفه صبري حافظ بما نصه :"التناص هو" التفاعل بين النصوص من خلال الإحلال أو الإزاحة أو الترسيب" ، وعرفه محمد عزام بقوله:" التناص تشكيل نصّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو النّص المتناصّ خلاصة لعدد من النصوص التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث لم يبق من النصوص السابقة سوى مادتها، وغاب (الأصل) فلا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران" . 3
وبعد هذه التعاريف ، يخلص لنا أن التناص: هو دخول نصين أو أكثر في علاقات مختلفة ( شرح وتفسير، معارضة، استشهاد،...)، وبكيفيات مختلفة ( ظاهرة، خفية )، وهذه النصوص المتفاعلة قد تكون لنفس الكاتب، أو لكتاب آخرين باختلاف الزمان والمكان، وبطريقة عفوية (اعتباطية)، أو بطريقة مقصودة، وبأشكال متنوعة بين الاجترار، الامتصاص، والمعارضة والحوار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق - ـ النقد.. والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب - 43
2- المرجع السابق -44
3- المرجع السابق - 45