التراث والقيادة السياسية في مجتمع الإمارات.......

أسهم التراث بصور متعددة في تشكيل النظام السياسي، وفي تعزيز دور القيادات السياسية في مجتمع الإمارات قديما وحديثاً، وذلك م خلال الأدوار الهامة التي كانت – وما تزال – تقوم بها المؤسسات التقليدية والعريقة في مجال الحياة السياسية. وتجدر الإشارة هنا إلى بعض المؤسسات السياسية الهامة مثل الشياخة، والمجلس، والشورى التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ الاجتماعي والسياسي، ويضاف إلى ذلك ان التنشئة السياسية التي كانت المدرسة الأولى للشيوخ والحكام اعتمدت على التراث بدرجة كبيرة وخرجت أجيالاً من القادة السياسيين الذين اهتدوا بالتراث في حياتهم العامة والخاصة، وفي إدارة شؤون الحكم. ومما يوضح قرب هؤلاء القادة من التراث، وارتباطهم الوثيق به، ودورهم الفاعل في تداوله واستمراريته، أن بعضهم كانوا مبدعين في الشعر النبطي، وبذلك تمكنوا من نشر قيم التراث وفحواه لمن خلفهم من الأهل والأبناء وأثروا فيهم بنفس الصورة التي جعلتهم يتأثرون بمن جاء قبلهم من السلف، ومن الرواد الأوائل الذين اشتهروا في مجال الشعر النبطي الشيخ ذياب بن عيسى حاكم ابوظبي الذي حكم إمارة ابوظبي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والشيخ خليفة بن شخبوط آل نهيان والد الشيخ زايد الأول الذي حكم إمارة ابوظبي ما بين عام 1833-1845م، أي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وكذلك الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان والد صاحب السمو رئيس الدولة. أما بالنسبة للفترة الحالية فنجد ان صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة، والفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع، من أميز شعراء النبط وأشهرهم. مما يدل على ان التراث – ممثلا في الشعر النبطي وما يتضمنه من قيم اجتماعية وسياسية ومفاهيم إنسانية – كان وما يزال هاجساً خاصاً، وشأناً عاماً للقيادة السياسية في مجتمع الإمارات لفترة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون.
تتعدد الأشكال والأجناس genres التراثية ذات الصلة بالسياسية والحكم، فإنه بجانب الشعر النبطي نجد ان أشجار النسب المتداولة في أوساط مجتمع الإمارات شفاهة وكتابة، تسهم في تعزيز المكانة الاجتماعية والسياسية للأسر الحاكمة، وتؤكد أحقيتهم في الحكم والقيادة السياسية، كما أن السير والأخبار التاريخية التي تتحدث عن مآثر الرواد الأوائل من آباء الحكام وأجدادهم، وإنجازاتهم في المجالات العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، وما يتداوله أبناء قبائلهم، بل أبناء المجتمع بعامة، تمثل سنداً إضافياً لأحقيتهم وأحقية أبنائهم في القيادة، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن التراث الاجتماعي الذي يعتمد على النظام القرابي، والذي يدعو إلى احترام الأبوة، والشياخة، والشورى، واحترام الكبير، وطاعة أولي الأمر يعطي دعماً فائقاً للقيادات التقليدية.
يبدو أن الصلة الوثيقة بين التراث والقيادة السياسية أضحت مسألة دائرية ومترابطة، فآباء وأجداد القيادات التقليدية الحالية هم صناع هذا التراث الذي دفع بأبنائهم وأحفادهم إلى مرافئ القيادة وتولي مسؤولية الحكم، وعليه فإن أبناء هذا الرعيل الأول – أي حكام اليوم – هم أحرص الناس على استمرارية هذا التراث والحفاظ عليه وإثراء عناصره، بالإضافة إليه وتفعيل دوره في المجتمع المعاصر. فالعملية إذاً أخذ وعطاء متصلان.
يسعى مجتمع الإمارات المعاصر في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الربط بين الأصالة والمعاصرة، فيواصل القادة السياسيون الحرص على التراث، وتعزيز مكانته في المجتمع الحديث، وتطوير أساليب النهوض به، وهذه الصلة الوثيقة تتجلى في عدة أشكال من أهمها :
أ ) الإسهامات المختلفة الصادرة عن المواهب والقدرات الخاصة لأولئك القادة، والتي تتصل مباشرة بالأعمال المرموقة ذات الصلة بالتراث.
ب) تأثيرهم وتوجيههم الدائم، ورعايتهم الشخصية للأعمال والمشروعات التراثية والحضارية الرائدة داخل الدولة، وعلى امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي.
جـ) إنشاء وتبنّي ورعاية المؤسسات الرسمية العاملة في مجال التراث الإماراتي بخاصة، والتراث الإنساني بعامة، ودعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً.
د ) تأثيرهم المباشر في أبنائهم ومعاونيهم ورعاياهم، وحثهم على الاهتمام بمآثر الآباء والأجداد، والالتزام بقيم التراث، وبأعراف وتقاليد المجتمع في سلوكهم الخاص والعام.