دور جو البيت
في دراسة أجريت على السلوك التربوي الذي اتبعه أهل بعض المتفوقين , الذين لمعوا كل في مجاله , لاحظ المراقبون القواسم المشتركة في التربية . ووجد الباحثون فعلاً بعض الخصائص : ترعرع الأولاد منذ نعومة أظافرهم في محيط غني استطاعت فيه إمكانياتهم أن تنمو , فانطلقوا إلى اكتشاف العالم المحيط بهم . أدرك أهلهم أن أي تعليم لا بد أن يمر عبر اللعب والمتعة , لذلك راحوا يشجعون أولادهم فيظهرون هم أنفسهم فضولاً وتحفزاً . كما تركوا لأولادهم حرية اختيار ما يثير اهتمامهم وأبدوا انفتاحاً كبيراً حيالهم .
وفر كل ذلك جواً عائلياً مفعماً بالإثارة والاحترام والدفء.
حين نجعل الولد يلعب , نعطيه أكثر من الفرص الفكرية , فقد لا حظنا أن هناك إمكانية كبيرة أمام الأهل والمربين للمساهمة والمشاركة في نمو ذكاء الولد . أصبحت طرق العمل والتصرفات الضرورية لهذا النمو معروفة الآن . لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد , فالناحية العاطفية تضاهي ذلك أهمية .
الشعور بالالتزام والمشاركة يخلق روابط وثيقة وحميمة , مما يؤدي إلى ارتباط أوثق بالولد .
بالإضافة إلى اللهو والإثارة اللذين توفرهما هذه الألعاب , فهي تسمح بمراقبة الطفل عن كثب . تطلعنا على أذواقه , ومباهجه , ومواطن قوته , مما يسمح بتربيته ومنحه إحساساً بالأمن الداخلي والحنان الواعي الضروريين لنموه .
نحن واثقون من أن هذه الطريقة الجديدة في ربط اللعب بالوعي , تنشئ عادات تشكل فرصاً حقيقية لمستقبل الولد , وتثبت قدميه في مشروع التفتح العام , الذي يحتل فيه ذكاء القلب مكانة خاصة جداً .
عناصر النمو العقلي
يفكر الولد ويفهم العالم المحيط به , بطريقة مختلفة عن طريقة البالغ . وكلما كان صغيراً كلما زاد هذا الاختلاف . لكنه يكتسب تدريجياً ، أثناء نموه , تلك البنى العقلية الناضجة . ندين لبياجية بالكثير ، لأنه كان من أوائل من قالوا بتطور ذكاء الطفل تدريجياً , في مراحل متلاحقة من عمرة , يعتبر بياجية أن فكر الطفل حالة خاصة من التكيف البيولوجي , تشرح نموه أربعة عناصر أساسية :
_ العنصر الأول هو النضوج . يولد الطفل مزوداً ببعض الإمكانيات , التي يقال إنها انعكاسية أي غير إرادية , وهي لا تحتاج أي تدريب , ويختفي معظمها مع الوقت كما يولد مزوداً أيضاً ببعض الإمكانيات الكامنة التي تتجلى مع نضوج الجهاز العصبي .
إن تنوع المناسبات التي تمرن فيها هذه القدرات هو الذي يحدد إمكانية تنميتها كلياً.
_ العنصر الثاني هو الاختبار المادي: معنى ذلك أن على الطفل أن يحتك بمحيطه، بالأشياء والأماكن، والأشخاص،إلخ.. لكي ينو فكرياً. عن طريق التعاطي مع كل ذلك، يتعلم الولد أن يحدد موقعه، ويميز بين الاعتيادي والمختلف، ويفهم نتيجة ما فعله.
ربما كانت قواعد الفكر العلمي والمنطقي تنشأ في هذه المرحلة.
_ العنصر الثالث هو النقل الاجتماعي: إن اكتشاف الطفل لمحيط به لا يعلمه كيف يتكلم ويلعب ويغتسل. تلك العادات البسيطة التي تؤلف نظام اليومية وتختلف من بلد إلى آخر، بل ومن عائلة إلى أخرى فكل حضارة لها موسيقاها وقيمها وقواعد اللياقة الخاصة بها.
إنه جو متكامل يترعرع فيه الطفل ، ولا يمكننا الاستهتار بما يكتسبه منه.
العنصر الرابع والأخير هو الضبط الذاتي: يولد الأطفال وفي داخلهم قوة تقودهم نحو التأقلم الفكري، الذي يستحسن أداؤه بشكل مطرد، فينتقلون من البسيط إلى المركب، ومن الغرض الحقيقي إلى رمزه، ومن الحسي إلى المجرد . ويشرح لنا مفهوم الـتأقلم كيفية حصول تلك العملية. إنها عملية توازن داخلي، تضبط دائماً معارف الطفل حتى يضيف إليها اختباراته الجديدة. يقوم المنهج الفكري الأول على ربط التجربة الجديدة بأشياء أو أنواع يعرفها الطفل، بهدف تحديدها أو توسيعها. وإذا استحال عليه ذلك، يبتدع فئات فكرية جديدة. لا يمكن تطوير المفاهيم الجديدة إلا إذا أخذ الطفل الوقت الكافي لاستيعاب المفاهيم القديمة. في ما يلي على ذلك:
تعرف (ألين) الكلاب، وتعتبر كلباً كل حيوان حتى لو كان مختلفاً. لكنها لم تر أبداً كلاباً كبيرة، في المرة الأولى ستبحث عن قواسم مشتركة بين هذا الحيوان الجديد والحيوانات التي تعرفها حتى الآن. لكن إذا استحال ذلك وحصل أن رأت في حديقة الحيوان مثلاُ، ذئباً أو ضبعاً أو أي حيوان آخر، فستكون في ذهنها فئة جديدة.
مراحل النمو
إن معرفة هذه الآليات الفكرية ، ونمو فكر الطفل المميز بحسب سنه، أمر بالغ الأهمية لمن يريد اقتراح نشاطات تناسب كل طفل وتسهل نموه الفكري . كلما كانت الألعاب التي تقترحونها على طفلكم، مثيرة لاهتمامه وملائمة لمستواه الفكري، كلما أصبحت حياته غنية. إهمال هذه المعرفة يمكن أن يقود إلى اقتراح نشاطات إنا ستصيبه بالإحباط أو تجعله يمل. بل فضوله أيضاً، ورغبته بالاستكشاف، ومنطقه وقدرته على الحكم وروحه المرحة وتأقلمه مع محيطه اليومي.
في ما يلي المراحل الأولى التي يمر بها الطفل:
المرحلة الأولى التي حددها بياجيه تغطي السنتين الأولى والثانية من حياة الطفل. الذكاء الذي يدعى حينها (حسي – حركي) sensori- motrice يُكتسب حكماً بالحواس والجسم. ويكتشف الطفل العالم بالأدوات التي أعطيت له. يكتسب عادات وإمكانية التعرف على الأشياء والأشخاص، وطرق التصرف. يندمج الطفل تدريجياً بمحيطه وتصبح تصرفاته متعمدة. يطور الطفل بسرعة ذكاء عملياً.
وكلما سمح محيط الطفل له بالاختبار والتجربة كلما زاد نمو هذا الذكاء.
يلي تلك المرحلة، مرحلة تمهيدية ، تلازم الطفل حتى سن السادسة أو السابعة. في هذه المرحلة يركز الولد أكثر ما يركز على تقليد الآخرين ويجسد ما يعيشه من خلال ألعاب رمزية. يتابع الطفل استكشافه وتجاربه، لكنه يطرح أسئلة ، ويضع فرضيات ويتعلم عن طريق المراقبة وتقليد كل ما يراه. لا يحلل إلا قليلاً ولا يعلق أهمية على التفاصيل إلا إذا لفتنا نظره إليها. لكنه يميل أكثر إلى مراقبة الحالات والحكم عليها بشكل عام. لا يتأثر الطفل في هذه السن تأثراً كبيراً بمنطق البالغين، ويعتبر الحيوانات والأشياء الجامدة حية.
خياله واسع جداً لكنه لا يفرق كثيراً بين العالم الواقعي والعالم الخيالي.
يجتاز الطفل حتى سن الحادية عشرة، مرحلة تدعى عملية واقعية. تنتهي مركزية تفكير الولد ويصبح أكثر إحساساً بالأبعاد الاجتماعية. وغالباً ما يعقد صداقة مع فرد أو مجموعة.لا يأبه الولد بالمظاهر، ولذلك نجد فكرة أكثر موضوعية وبعداً عن الانحياز. لكنه لا يزال يتصرف تبعاً لوقائع حسية , ولا ينكب على التفكير بالمفاهيم المجردة إلا في المرحلة التالية .
هذه المعاينة السريعة مقتضبة جداً ! الهدف منها إثبات أن الطفل لا يفكر كالناضج . يجب أن نعلم بدقة متى يصبح مستعداً لتطوير هذه القدرة أو تلك , لتقترح ذلك عليه في الوقت المناسب . لا قبل الأوان فنجعله يفشل , ولا بعد فوات الأوان مما قد يلغي فائدة التمرس المطلوب .
لا ينمو الطفل بشكل جيد إن لم نقدم له التحفيز المناسب لسنه . تلك هي أهمية هذه الأفكار , التي تقترح عليكم لكل سن نشاطات ترفيهية تشاركون بها لطفلكم .
يتبع ...........