-
عضو جديد
- المواطنة والهوية في ظل الاتحاد:
إن إعادة بناء الهوية بوعي المكان والزمان في إطار التراكم التاريخي والحقائق القائمة، تعتبر أحد الشروط التي لا يمكن الاستغناء عنها من أجل الظهور على مسرح التاريخ، والمساهمة في التراكم البشري. كما أن الذهنية الاستراتيجية التي لا تستند إلى نية لإثبات وجودها لا يمكنها التخلص من السلبية التي تعيشها. ولذلك فإن المجتمعات التي تمتلك الذهنية الاستراتيجية الثابتة، والتي تنتج مفاهيم وأدوات ومجالات جديدة حسب الظروف المتغيرة والمحيطة بهذه الذهنية، تستطيع أن تفرض ثقلها في مقاييس القوى الدولية. وبالمقابل، فإن المجتمعات التي تنسلخ عن الوعي بهويتها من خلال انكسار راديكالي في ذهنيتها الاستراتيجية، ستجازف في قوة وجودها التاريخي. في حين أن المجتمعات التي تتعامل بذهنية جامدة برفضها للمجتمعات الأخرى، فإنها ستنسلخ عن الوعي البشري المشترك ويتم رفضها (1).
وقد أسس الاتحاد الإماراتي هوية جمعية واعية، ترسخ المواطنة الجديدة وتعليها على الهويات الفرعية، مع المحافظة عليها. إذ ساوى دستور الدولة بين كافة مواطني الإمارات الأعضاء، باعتبارهم مواطني دولة واحدة، وعليه نشأت حقوق المواطنة تحفظ الهويات التقليدية في الدولة. ومن ذلك تم منح كل إمارة صوتاً واحداً في المجلس الاتحادي الأعلى.
ولمفهوم المواطنة أبعاد متعددة تتكاملوتترابط في تناسق تام:
بعد قانوني يتطلب تنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين استناداً إلىعقد اجتماعي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع.
بعد اقتصادي اجتماعي يستهدف إشباع الحاجيات المادية الأساسية للبشرويحرص على توفير الحد الأدنى اللازم منها ليحفظ كرامتهم وإنسانيتهم.
بعد ثقافي حضاري يعنى بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للأفرادوالجماعات على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية والحضارية ويرفض محاولاتالاستيعاب والتهميش والتنميط.
وقد أتى هذا الاتحاد بفوائد جمة على مستوى الهوية الوطنية الجامعة، من أهمها:
توحيد الجهود السياسية في مواجهة التهديدات الخارجية وخاصة الإيرانية، والمنبثقة تحديداً منذ احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث.
إحداث تكامل اقتصادي نفطي - تجاري - زراعي، تبعه تنمية صناعية، أنشأ بنية تحتية قادرة على ولوج الاقتصاد العالمي والمنافسة فيه، مما انعكس على مستوى معيشة المواطنين كافة، والرقي بهم إلى مستوى عالمي.
بناء سياسة خارجية واحدة، تحفظ للدولة كينونتها، وتدافع عن مصالح أعضائها.
المحافظة على الأعضاء داخل الدولة من الانقسامات والتباينات التي قد تنشأ فيما بينها.
حماية الأعراف والتقاليد المحلية والقبلية والأسرية، التي تتميز بها الإمارات الأعضاء في الاتحاد، عبر منحها حق تسيير شؤونها، وهو ما يمنح الشعور بالحماية والمساواة ما بينها من جهة، وبالتوازن في إدارة البلاد من جهة أخرى.
منح الأعضاء حرية الولوج الحداثي بما يتفق مع مرتكزاتها الاجتماعية.
وقد أدت السياسة الفدرالية في دولة الإمارات، إلى ترسيخ مفهومين أساسيين في المجتمع الإماراتي: الانفتاح والسلام. وهو ما انعكس لاحقاً على سياساتها تجاه محيطها وتجاه العالم، باعتبارهما ركيزتي الاستقرار والتنمية، وخاصة في ظل الطموحات التي صاغها قادة الإمارات للنهوض ببلادهم لحظة إنشاء الاتحاد، التي شكلت تحدياً كبيراً حينها. وهو ما جعلها قبلة للنشاط الاقتصادي عالمياً، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، كنتيجة أساسية للبناء الفكري المجتمعي القادر على الانفتاح الهوياتي.
تمتلك الدولة سجلاً حافلاً وراسخاً من التعايش والتسامح الديني والثقافي بين سكانها. حيث يقيم حالياً على أرضها أكثر من 200 جنسية، وفّرت لهم الدولة قانوناً يحمي معتقداتهم ويحترم أعرافهم وتقاليدهم ويوفر لهم حرية ممارسة شعائرهم في جو يتسم بالعدالة والشفافية التي لا تسمح للتعصب الديني أو المذهبي أو العرقي أن ينمو فيها. كما أن الجهود التي تبذلها الدولة من خلال الفنون والثقافة والسياسات التعليمية، ساهمت في إيجاد مستوى أعمق من التفاهم والتسامح وأدت إلى رفع مستوى الوعي والاحتفال بالتراث العالمي، فضلاً عن تراثها الخاص. وتجسد دولة الإمارات العربية المتحدة مثالاً حياً للتفاعل الإيجابي والبنّاء بين الثقافات المختلفة واللغات والأجناس والأعراق والمعتقدات، وهو ما يؤدي إلى تناغم وتعايش سلمي في هذا المجتمع المتنوع (2).
لقد تطورت الدولة مع نشوء جيل جديد مشبع بالولاء للاتحاد، مما أضعف روح الإقليمية والولاء للإمارة على حساب الاتحاد، ويعد هذا مؤشراً جيداً يوحي بأن الأجيال القادمة ستكون أكثر قدرة على دمج الدولة إذا ما توفرت الظروف الموضوعية لذلك. فبعد قرار المجلس الأعلى للاتحاد عام 1996 بتحويل الدستور المؤقت إلى دستور دائم، فإنه بذلك قد حسم نهائياً الوضع السياسي في الإمارات في تبني الصيغة الاتحادية، كما جاء ليحول دون طموحات الانفصال، وبالمقابل أنهى هذا القرار أي طموح لقيام دولة مركزية تتجاوز المحاصصة بين الإمارات(3).
فالمواطنة مفهوم يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية:
مدنية: والتي تشمل كافة الحقوق والحريات العامة لأفراد المجتمع.
سياسية: وهي قدرة أفراد المجتمع على المشاركة السياسية في إدارة بلادهم دون أدنى تمييز فيما بين المكونات الاجتماعية.
اجتماعية: من خلال العمل على تكريس وتوسيع قاعدة الحق في الرفاه والأمن.
وتتنوع أشكال الأنظمة السياسية في الدول المعاصرة، ما بين دول مركزية تخضع لقيادة سياسية أحادية الشكل، وهرمية في البناء، وبين أشكال فدرالية أثبتت جدارتها بالمقارنة مع الشكل الأول في احترام الخصوصيات المجتمعية وتوسيع المشاركة السياسية. ويتوزع هذان الشكلان على أنماط متعددة من برلمانية ورئاسية وملكية مطلقة ومختلطة في إدارة الحكم.
وتسعى هذه الدراسة لتناول شكل نظام الحكم في دولة الإمارات العربية المتحدة، ودارسة أشكال توزيع السلطة الفدرالية فيها، وأثر ذلك على تعزيز مستوى المواطنة وانعكاسه على الهوية الوطنية الناشئة بعد الاتحاد، سواء على المستوى الدستوري أو التطبيقي.
أولاً- شكل النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة:
يعتبر شكل النظام السياسي الاتحادي في دولة الإمارات، أحد الأشكال الوحدوية في العالم العربي، وأكثرها استمرارية، ضمن أشكال عدة اتخذت أطر الدولة المركزية المتشددة أو الكونفدرالية، لم يكتب لكثير منها الدوام إلا لسنوات محدودة، أو أنها استمرت ضمن صراعات داخلية انعكست على بنية الدولة وطبيعة العلاقات المجتمعية فيها.
فالوحدة بين التشكيلات الاجتماعية والكيانات البشرية، لا يمكن أن تنجز بالفرض والقوة، وأية وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية، والارتماء في أحضان المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات، لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقوة والقسر. فالتجارب الإنسانية جميعها، تقف بقوة ضد كل المشروعات الوحدوية التي تبنى بالقسر والعسف والإرهاب، لأن مردوداتها السلبية والعكسية خطيرة وآثارها البعيدة تزيد من عوامل التفتت والاحتماء بالمشروعات الضيقة، التي تزيد الناس انغلاقاً وتعصباً عن أخلاق الوحدة وثقافة العيش المشترك.
فالنواة الحقيقية لتحقيق مشروع الوحدة الوطنية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة الوطنية شعاراً أجوفاً، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية.
فالوحدة الوطنية من المشروعات التي تتطلب بنية تحتية قوية، وينبغي أن يشارك كل مواطن بجهد في سبيل توفير تلك البنية، كما لا يمكن إنجاز أي مستوى من مستويات الوحدة بدون قاعدة أخلاقية وقيمة (4).
لذا يمكن اعتبار نموذج الاتحاد الإماراتي، من أنجح النماذج الدولية الاتحادية، لناحية توفير التوافق العقدي بين المكونات المتحدة لناحية، وترسيخ مفهوم المساواة بين تلك المكونات من ناحية أخرى. فقد انبثق مفهوم الاتحاد الإماراتي قبيل الجلاء البريطاني عن منطقة الخليج العربي بعدة سنوات، ومنذ عام 1966، بداية على يد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم إمارة أبو ظبي حينها، كآلية لإنشاء كيان سياسي قادر على الاستمرار، في مواجهة تحديات داخلية وتهديدات خارجية، يشمل الإمارات السبع المتحدة حالياً وطامحاً لانضمام قطر والبحرين في ذلك الوقت.
إذ أكّد الشيخ زايد، فور تسلّمه سدّة الحكم في السادس من أغسطس عام 1966 حاكماً على إمارة أبو ظبي، مدى أهمية الاتحاد، وقال معلّقاً: "نستطيع بالتعاون وبنوع من الاتحاد، اتباع نموذج الدول الأخرى النامية". ورغم إدراكه التام بأنّ الاتحاد كان مجرّد مفهوم حديث في المنطقة، إلاّ أنّ اعتقاده بإمكانيّة تنفيذه على أسس الروابط المشتركة التي تربط بين مختلف الإمارات، بالإضافة إلى تاريخ وتراث أبنائها الذين عاشوه معاً لعدة قرون كان ثابتا،ً لذا عمل الشيخ زايد على ترجمة مبادئه وأفكاره عن الاتحاد والتعاون والمساندة المتبادلة إلى أفعال، وذلك بتخصيص جزء كبير من دخل إمارته من النفط لصندوق تطوير الإمارات المتصالحة قبل بداية دولة الإمارات العربية المتحدة كدولة اتحادية. وأطلق التوقّع الكبير لإنهاء العلاقة الخاصة القائمة بين بريطانيا والإمارات المتصالحة لفترة 150 عاماً الإشارة إلى نوع ما من الترابط الذي يتسمّ بالطابع الرسمي الأكثر قوّةً مما كان مقدّماً من قبل مجلس الإمارات المتصالحة، ونتيجةً لهذه القوى الجديدة العاملة اتّخذ كلّ من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم إمارة أبو ظبي، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي، الخطوة الأولى نحو إنشاء الاتحاد (5).
التعديل الأخير تم بواسطة amooni94 ; 07-12-2013 الساعة 04:46 PM
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى