دلائل الاعجاز

ابرز النقاد العرب على الاطلاق هو الامام ابو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني وقد ذاعت شهرة عبد القاهر واستفاضت بسبب رقي منهجه النقدي , وتقدم فكرته البلاغية .وقد تناول السرقات بدراسته في كتابيه :دلائل الاعجاز , واسرار البلاغة .
وكما عرضنا منهجه في الاسرار سأحاول عرض منهجه في كتابه الدلائل >: .(1)

1- يتحدث عبد القاهر في هذا الكتاب عن فكرة الاخذ , ويتناولها من نواحيها المختلفة , من وجهة نظر منهجه البلاغي .وهو لذلك يهاجم النقاد الذين يأخذون بظواهر الكلم , حتى إنهم يرون خيال الشي فيحبونه الشيء.

وذاك أنهم قد اعتمدوا في كل امرهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ , وجعلوا لايحفلون بغيره ولايعولن الفصاحة والبلاغة على شيء سواه , حتى انتهوا الى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيخ فقرأه , ونطق بألفاظه على النسق , الذي وضعه الشاعر عليه , كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته . إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا ) . وعبد القاهر هنا يهاجم النقاد الذين بالغوا في السرقة والإحتذاء ,ونسوا في سبيل ذلك أن الإحتذاء عند أهل العلم بالشعر فيقول (أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض وأسلوبا ( والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه ) فيعمد شاعر آخر الى ذلك الأسلوب , فيجيئ به في شعره فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها , فيقال قد احتذى على مثاله ). وينكر عبد القاهر على النقاد وصمهم الشاعر بالسرقه مادام محتذيا , وذلك لأنه يفرق بين الإحتذاء والسرقة , كما يتبين من تفسيره العلمي السليم ,
ويتناول عبد القاهر هذه الفكرة مرة أخرى فيقول ( فاما أن يجعل إنشاد الشعر وقراءته احتذاء فما لايعلمونه كيف . وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظه لفظة في معناه , كمثل أن يقول في قوله :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

**
ذر المآثر لاتذهب لمطلبها واجلس فإنك أنت الآكل اللابس .

لم يجعلوا ذلك احتذاء , ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه محتذيا , ولكن ولكن يسمون هذا الصنيع سلخا , ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له . فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبى يقرأ قصيدة امرئ القيس إنه احتذاه في قوله 2)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
1- مرجع سابق مشكلة السرقات - – ص 138
2- مرجع سابق – شرح دلائل الإعجاز - ص
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازا وناء بكلكل ؟!
2- ويقرر عبد القاهر بعد ذلك أن علة الخلط الذي وقع فيه النقاد , ترجع الى جهلهم (أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور,وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لاتكون . فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل ,فصنع فيه مايصنع الصانع الحاذق إذ هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف ,وغيرها من أصناف الحلي فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي اغواهم واستهواهم وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات ,وأدهم الى التعلق بالمحلات , وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسا , وبنوا على قاعدة فقالوا غنه ليس إلا اللفظ والمعنى ولا ثالث ) . (1)
ولاشك أن عبد القاهر قد وصل إلى علة حقيقية في مشكلة السرقات , ولم يتنبه إليها النقاد من قبل .فليس الأمر مجرد لفظ ومعنى ةإنما هو صياغة وتصويرا أيضا . ولهذا كان المبدأ الذي أخذ به النقاد في السرقات وهو (إن من اخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده ,كان أحق به ) ليس مبدئا صحيحا طبقا لنظرية عبد القاهر . وهو يرد على هذا المبدا عند النقاد فيقول ( الإستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ ,ولاترونالمستعير يصنع بالمعنى شيئا ,وترون أنه لايحدث فيه مزية على وجه من الوجوه , وإذا كان كذلك فمن أين – ليت شعري – يكون أحق به ؟!)(2)

ويجمل عبد القاهر فكرته في حقيقة الأخذ طبقا لنظرية النظم التي نادى بها . فيقول : ( كما لا تكون الفضة والذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما , ولكن بما يحدث . فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النح وأحكامه . فإذن ليس لمن يتصدى .لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظه في معناها إلا أن ,يترك عقله ويستخف ,ويعد معد الذي حكى أنه قال : إني قلت بيتا هو أشعر من بيت حسان ,قال حسان :

يغشون حتى ماتهر كلابهم لايسألون عن السواد المقبل

وقلت :

يغشون حتى ماتهر كلابهم أبدا ولايسألون من ذا المقبل!
فقيل : هو بيت حسان ولكنك قد أفسدته ! )(3)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ

1- مرجع سابق – دلائل الإعجاز – ص
2- المرجع السابق - ص
3- المرجع السابق - ص




وعلى أساس ما تقدم يجعل عبد القاهر المعنى المتداول بين الآخذ والمأخوذ منه ,قسمين :
الأول : ( ترى فيه أحد الشاعرين قد أتى بالمعنى غفلا ساذجا ,وترى الآخر قد أخرجه من صورة تروق وتعجب . ويكون ذلك إما لأن متأخر قصر عن متقدم ,وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ) .(1)
الثاني : (ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصور , وهذا يدل على أن المعنى ينتقل من صورة ال صورة ) (2) . ويهتم عبد القاهر بهذا النوع اهتماما كبيرا – يظهر في إيراده كثيرا من الأمثلة التطبيقية – باعتبار أن النوع الأول ليس مجال دراسة البلاغيين لأنه أمر ظاهر للعيان , ولكن هذا القسم هو الميدان الذي يصول فيه البلاغي ليستخدم أدواته في الحكم على أي الصورتين أجمل من الأخرى ما دام المعنى واحدا , وعبد القاهر هنا لايهتم بالبحث عن سارق المعنى من الآخر ,ولكنه يحصر إهتمامه في فكرة تصوير المعنى باعتبار أن ( الشعر صناعة وضرب من التصوير ) كما سبق أن قرر الجاحظ ,واتبعه عبد القاهر في هذا المبدأ , ويعتبر عبد القاهر المعنى الواحد الذي يفرغه كل شاعر في صورة تختلف عن الأخرى وكالأشياء يجمعها جنس واحد ثم تفترق بخواص ومزايا وصفات ,كالخاتم والخاتم , والشنف والشنف , وسائر اصناف الحلي التي يجمعها جنس واحد وثم يكون بينهما الإختلاف الشديد في الصنعة والعمل .
هذه هي المسائل الرئيسية التي ناقشها عبد القاهر لتوضيح فكرة الأخذ طبقا لنظرية النظم التي نادى بها , ووضع لها الأساس والقواعد الثابته . ولاشك أن عبد القاهر قد أوصل هذه الفكرة إلى غايتها التي كان يجب على النقاد الوصول اليها منذ زمن بعيد ليستقيم الكثير من أحكامهم المضطربة , التي اصدروها خلال بحثهم في انواع الأخذ الحسن والقبيح .











1- مرجع سابق – دلائل الإعجاز - ص
2- المرجع السابق - ص








المبحث الرابع
مواقف النقاد تجاه قضية السرقات:

يمكن تصنيف مواقف النقاد العرب تجاه قضية (السرقات) في موقفين متباينين: التعقب المضني، والتسامح الكثير.
ولعل أسباب البحث في هذه القضية عديدة، أولها: محاولة الناقد إثبات كفايته الشعرية، وحفظه الجم للموروث. ثم تطور الأمر فأصبح تعصباً للقديم على الجديد،حيث أشيع أن المعاني استنفدها الشعراء الأقدمون، وأنه لم يعد أمام الشاعر المحدث سوى أن يأخذ عنهم. وبهذا فهو مقصر في نظر أسياد التقليد والتراث.(1) كتاب النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي محمد عزام ص 85
وبما أن الشاعر القديم لم يكن يسرق، (فالجاهلي مثلاً لم تصلنا مصادره التراثية) فإن تهمة السرق ينبغي أن تلصق بالشاعر المحدث الذي ليس عليه سوى أن يترسم خطى الأوائل. وهكذا جعل بعض النقاد المتعصبين قمم الشعر العربي الذين نفاخر بهم (أمثال أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي… الخ) سراقاً! و"هذا يعني أن قضية (السرقة) ما كان من حقها أن توجد، لأنها استطاعت أن تتحول بالنقد في وجهة غير مثمرة أبداً"(2).
والأدلة على تعصبهم كثيرة، فقد كان أبو عمرو بن العلاء مثلاً يرفض الاستشهاد بشعر المحدثين قائلاً: "لو أدرك هذا المحدث يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً". وهذا تفضيل للعصر على العصر، وليس للشعر على الشعر. وهو موقف نقدي متعسف، ومن ذلك أيضاً أنه عرضت على ابن الأعرابي أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها:
وعاذلٍ عذلتُهُ في عذلـهِ فظنَّ أني جاهلٌ من جهلهِ


وقيل له: هذه لفلان من شعراء العرب، فاستحسنها، وقال: هذا هو الديباج الخسرواني. ثم استكتبها. فلما انتهى قيل له: هذه لأبي تمام، فقال: إن أثر الكلفة عليها ظاهرة، يا غلام خرّق خرّق.
ومن ذلك أيضاً موقف الأصمعي، فقد أنشده إسحاق الموصلي قوله:
هل إلى نظرةٍ إليكِ سبيلُ فيُروى الصدى ويشفى الغليلُ

إنّ ما قلّ منكِ يكثر عندي وكثيرٌ مما تحبُّ القليلُ

فقال الأصمعي: لمن تنشدني؟ قال: لبعض الأعراب: فقال الأصمعي: والله هذا هو الديباج الخسرواني. قال إسحاق: إنهما لليلتهما! فقال الأصمعي: لا جرم والله إن أثر الصنعة بيّن عليهما.(3)
هذه أمثلة على تعصب بعض علماء العربية ونقاد الشعر على الشعراء، دون وجه حق، فقد كانوا ينتصرون للقديم، ويتعصبون له، دون أن ينظروا روعة المحدث وإبداعه. وبهذا ينبغي ألا تؤخذ أقوالهم على علاتها، لأن الإبداع لا يختص بزمن دون آخر، وليس من حق القدماء وحدهم.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق - النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي- محمد عزام ص 85
2 - -– تاريخ النقد الأدبي عند العرب- إحسان عباس- دار الأمانة ومؤسسة الرسالة – بيروت 1971-ص41
3- مرجع سابق - النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي- محمد عزام ص 86

ولعل سبب إيثارهم الشعر القديم والتعصب له هو حاجتهم إلى الشاهد النحوي واللغوي، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة. يقول الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: جلست إليه ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت شعر إسلامي. وعندما سئل عن المحدثين أجاب: ما كان من حسن فقد سُبقوا إليه، وما كان من قبح فهو من عندهم!
وهكذا انقسم العلماء في الشعر إلى فريقين: فريق يناصر الشعر القديم، وفريق يناصر الشعر المحدث. وطغى هذا الخصام على الحق، وأصبح النقاد ينظرون إلى العصر أكثر مما ينظرون إلى الشعر، ويغلبون الانطباعية الذاتية على الدقة الموضوعية، وقل منهم من نظر إلى الشعر ولم ينظر إلى الشاعر. نجد مصداق هذا لدى ناقد موضوعي كابن قتيبة الذي حاول أن ينزع رداء العصبية و "ألا ينظر إلى المتقدم من الشعراء بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل ينظر بعين العدل إلى الفريقين، ويعطي كلا حظه، فقد رأى من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خصّ به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدّون محدثين، ثم صار هؤلاء قدماء عندما بَعُدَ العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا"(1).
ويؤكد هذا نقاد آخرون من مثل ابن الأثير في كتابه (المثل السائر)، والقاضي الجرجاني في كتابه (الوساطة) الذي يقول: "ولو أنصف أصحابنا هؤلاء لوجد يسيرهم أحق بالاستكثار، وصغيرهم أولى بالإكبار، لأن أحدهم يقف محصوراً بين لفظ قد ضيق مجاله، وحذف أكثره، وقل عدده، وحظر معظمه، ومعان قد أخذ عفوها، وسبق إلى جيدها. فأفكاره تنبعث في كل وجه، وخواطره تستفتح كل باب. فإن وافق بعض ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان، ولعل ذلك البيت لم يقرع سمعه، ولا مر بخلده، كأن الشوارد عندهم ممتنع، واتفاق الهاجس غير ممكن! وإن اخترع معنى بكراً أو افتتح طريقاً مبهماً، لم يرض عنه إلا بأعذب لفظ وأقربه إلى القلب، وألذه في السمع. فإن دعاه حب الإغراب وشهوة التنوع إلى تزيين شعره، وتحسين كلامه، فوشحه بشيء من البديع، وحلاّه ببعض الاستعارة، قيل: هذا ظاهر التكلف، بيّن التعسف. وإن قال ما سمحت به النفس، ورضي به الهاجس، قيل: لفظ فارغ وكلام غسيل"(3) وهذا أعدل كلام رأيته.
هكذا يمكن تصنيف مواقف النقاد العرب في موقفين: ففريق حافظ على تسميتها (السرقات)، ورأى في السرق غضاضة تحط من قدر الشاعر، كي لا تصبح الأمور فوضى ينهب الشاعر ما يشاء من شعر غيره. وبهذا استطاع أن يصون الأعمال الأدبية من العبث والسرقة، حتى لقد بلغ من حرصهم على الشعر أن يقرنوا كل شعر براويه، وكل خبر أدبي بسلسلة طويلة من الرواة، كما كانوا يفعلون في توثيق الحديث النبوي الشريف. وكان من أثر هذه العناية أن وصفوا (الأخذ) من شعر غيره بأوصاف قاسية كالسرقة، والانتهاب، والغصب، والإغارة، والمسخ.. الخ.
وأما الفريق الثاني فقد رأى في (الأخذ) جهداً فنياً مشروعاً يضاف إلى جهود التجديد والابتكار وقد اعترف بعض الشعراء على أنفسهم بالأخذ، ولو كان في ذلك عار ما فعلوا ولأنكروا، وكأنهم باعترافهم يجيزون لأنفسهم الأخذ من غيرهم، ويعتبرون الأخذ عملاً أدبياً مشروعاً، فحين قال أبو تمام في مديحه:
وما سافرتُ في الآفاق إلاّ ومن جدواك راحلتي وزادي
مقيمُ الظنّ عندك والأماني وإن قلقت ركابي في البلاد
سأله ابن أبي داود عن هذا المعنى، أهو من المعاني التي اخترعها؟ فقال أبو تمام: أخذته من قول الحسن بن هانئ:
وأن جرت الألفاظ يوماً بمدحة لغيرك إنساناً، فأنت الذي نعني


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
1--ابن قتيبة – الشعر والشعراء ص1/7
2- الجرجاني – الوساطة- 188

وهذا يدل على أن الأخذ لم يكن عيباً كبيراً، وإنما بعض النقاد هم الذين أطلقوا عليه التسميات والمصطلحات الحادة من مثل: النهب، والسرقة، والغصب.. الخ، وكأنهم بذلك يضللون الآخرين بمثل هذه التسميات، ويخدعونهم عن الحقيقة، حين يصورون أنفسهم عالمين بالمعاني، وكيف تتوالد عن سالف إلى خالف، مثلهم في هذا مثل بعض المترجمين اليوم عن اللغات الأجنبية الذين يلتقطون فكرة من هنا، ثم ينسبونها إلى أنفسهم، متناسين الأمانة العلمية.
وهذا الفريق من النقاد تلطفوا في مصطلحاتهم، فسموا الأخذ (اقتباساً)، و(تضميناً)، و(استشهاداً)، و(توارداً)، و(تلميحاً)، و(عقداً)، و(حلاً)… الخ. يقول الآمدي في (الموازنة): "إن من أدركته من أهل العلم بالشعر لم يكن يرى سرقات المعاني من مساوئ الشعراء، وخاصة المتأخرين منهم، إذ كان هذا باباً ما تعرى منه متقدم ولا متأخر". (1) ويقول أبو هلال العسكري في (الصناعتين) إنه قد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدم من غير أن يلم به، ولكن كما وقع للأول وقع للآخر، وهذا أمر عرفته بنفسي، فلست أفتري فيه، وذلك أن عملت شيئاً في صفة النساء:
سفرن بدوراً وانتقبن أهلّةً
وظننت أن سبقت إلى جمع هذين التشبيهين في نصف بيت، إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين، فكثر تعجبي، وعزمت على ألا أحكم على المتأخر بالسرق من المتقدم". (2) وقال القاضي الجرجاني في (الوساطة): "وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه. وكان أكثره ظاهراً كالتوارد". (3).
وهكذا أجمع معظم النقاد على رفض (السرق) والتهوين من أمره، واعتباره (توارد خواطر)، فقد سئل أبو عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظة، لم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع بشعره؟ قال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها. وسئل أبو الطيب المتنبي عن مثل ذلك فقال: الشعر جادّة، وربما وقع الحافر على الحافر.
بالإضافة إلى أنه ينبغي على الشاعر أن يكون عالماً بمذاهب الشعراء، عارفاً بمعانيهم وأساليبهم، واعياً التقاليد الأدبية، مطلعاً على التراث. وقد اشتهر من الشعراء بالعلم أبو تمام الذي شغف بالشعر، وله فيه مختارات مشهورة: الحماسة، والاختيار القبائلي الأكبر، واختيار الشعراء الفحول، واختيار المقطعات، وأشعار المحدثين. وهذه المختارات جميعاً إنما تدل على عنايته بالشعر، واشتغاله به. ومثله أبو العلاء المعري الذي تظهر سعة اطلاعه على الشعر ومعرفته بالشعراء في رسالته (رسالة الغفران)، وفي شعره أيضاً. يقول ابن رشيق في (العمدة): "اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سُبق إليه جهل، والمختار له أوسط الحالات". 4).
وهذا يعني أن الإبداع لا يكون من لا شيء، وإنما يبني اللاحق على السابق.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
1- مرجع سابق الوساطة - ص131
2- مرجع سابق – الوساطة - ص196
3-المرجع السابق 0ص207
4- ا لمرجع السابق - ص2/166

__________________