قاال الله تعالى: { حتَّى إِذَا أَتَوا عَلَى وَادِ النَّمل قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمل ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُون (18) } سورة النمل (27)
- كما في النَّحل، رصد العلماء، طرق معيشة النَّمل، وأدهشهم عملهم الجاد الدؤوب في تحصيل أرزاقهم، متعاونين مع بعضهم بعضاً، موزعين الوظائف والمهمَّات بينهم بكلِّ دقَّة وجدِّية.
- لم تفكِّر النَّملة في إنقاذ نفسها بشكل أناني، بل حذَّرت أصحابها من تحطيم سليمان وجنوده لهم، مما يدُّل على روح الجماعة والتعاون والتفاني المفطورين عليها.
في رحاب الآية
أ ثبت الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن
*للنَّمل لغة تخاطب وتفاهم فيما بينهم ..
*كما عرفنا منها أن للنَّمل نظاماً دقيقاً في معاشه ، فهو له قائد يوجِّهه ويأمره ، وله مساكن يعيش فيها. هذه المساكن مقسَّمة إلى غرف معيشة ، ومستودعات لخزن المؤن ، ولها دهاليز معقَّدة ، عليها حراسة مشددَّة على مدار الساعة. ويجتمع من تلك المساكن قرى كاملة، وقد تبني عدَّة قرى، كأنها مستعمرات تصل بينها طرق ومسالك، بحيث تهتدي بها إلى أعلى الأرض.
كذلك هناك نوع آخر من النَّمل يبني بيوته فوق الأرض، من أوراق الأشجار وأغصانها، ويكثر هذا تحت شجر الصنوبر، أو ينحت هذه البيوت في الأشجار العتيقة، كما يتَّخذ الإنسان من الجبال بيوتاً. ومع أن النَّمل لا يملك الآلات والعُدَد، فإنه يبني أبراجا في غاية الدقة والإحكام، مستعينا بمقصِّ فمه الحاد، حيث يمضغ ما يقصُّه حتَّى يصبح كالعجين، ولعلَّ ما بناه قدماء المصريين في مساكنهم وأهراماتهم كان تقليداً للنمل
وللنَّملة رأس ووسط وذنب أسطواني، ولها ستُّ أرجل تقدر بها على الجري السريع، ولبعضها أجنحة للوثوب، ولها خمس أعين؛ عينان مركَّبتان على جانبي الرأس مكوَّنتان من أعين بسيطة تعدُّ بالمئات، وهي ملتئمة الوضع والتركيب والترتيب بحيث ترى وكأن لها عينا واحدة، وثلاث العيون الباقية موضوعة على هيئة مثلث، يعلو العينين المركبتين، وهي أعين بسيطة لا تركيب فيها، غير أن عيون الذكر أكبر من عيون الأنثى، ومتقاربة من بعضها بسبب قوَّة المهام المنوطة به.. ولكلِّ نملة قرنان طويلان كالشعرتين، بهما تحسُّ الأشياء، ويقومان مقام اليدين والرجلين والأصابع في الحمل؛ ويسميان الحاسَّتين

وتضع إناث النَّمل بيوضها في محال تقرب من مساكن الكبار، وتخصَّص لها مربيات يلاحظهن ليلا ونهارا، مع تأمين الحرارة المناسبة لها، حتَّى تتفتَّح البيوض وتخرج دودا صغيرا لا جناح له ولا أرجل، تلاحظه المربيات وتطعمه، حيث يأكل بشراهة لعدَّة أسابيع، ثمَّ يغزل بفمه، وينسج على نفسه كرة من الحرير وينام. فإذا مضت أيام، نهض من رقدته، وقطع خيوط الكرة، وقرض حريرها المحيط به، تساعده المربيات في ذلك، وتقوم بتنظيفه، حيث تظهر أرجله وأجنحته، والنَّمل بهذه المناسبة يحبُّ النظافة حبّاً مفرطاً .
يعمل النَّمل في قراه بموجب انضباط مدهش وصارم للغاية ، وبإشراف النَّمل الَّذي كبرت رؤوسه وعظمت خراطيمه. والصبية الصغار تبقى في الديار تحفر الحجرات، وتشكِّل السراديب وتنمو وهي فيها، بالإضافة إلى وجود المربيات، وكذلك النَّمل المسؤول عن الحراسة أو التنظيف أو حفظ المؤن وتوضيبها الَّتي يحضرها النَّمل العامل. وهو يأبى كلَّ الإباء أن يطَّلع أحد على أسراره، أو يتطفَّل عليه لمعرفة نظامه العجيب في الحياة.
وقد وجد العلماء أن النَّمل حين يغادر قريته، يرسل في كلِّ مسافة معيَّنة مـادَّة كيميائية لها رائحة صغيرة حتَّى يستطيع التعرُّف إلى طريق عودته ، وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادَّة لم يستطع النَّمل الاهتداء إلى طريق عودته.. فإذا رأت النَّملة شيئا مفيدا لا تقوى على حمله نشرت حوله بعض الرائحة، وأخذت منه قدرا يسيرا، وكرَّت راجعة إلى أخواتها، وكلَّما رأت واحدة منهن أعطتها شيئا ممَّا معها لتدلَّها على ذلك، حتَّى يجتمع على ذلك الشيء جماعات منها، يحملونه ويجرُّونه بجهد وعناء متعاونين في نقله؛ علماً بأن للنَّمل قوى عضلية بالنسبة إلى حجمه تزري بقوَّة أعظم المصارعين والرياضيين، بحيث تستطيع النَّملة الواحدة أن تحمل بين فكَّيها حملا أثقل من وزنها بثلاثة آلاف مرَّة من غير عناء. كما وجد العلماء أن النَّمل ينشر عند موته رائحة خاصَّة تُنبِّه بقيَّة الأفراد إلى الإسراع بدفنه قبل انجذاب الحشرات الغريبة إليه.. وعندما قام أحد العلماء بوضع نقطة من هذه المادَّة على جسم نملة حيَّة سارع باقي النَّمل إليها ودفنوها وهي حيَّة.
والنَّمل من الحيوانات والحشرات القليلة الَّتي أودع الله فيها غريزة ادِّخار الغذاء . فهو يحتفظ بالحبوب في مسكنه الرطب الدافئ تحت الأرض دون أن يصيبها تلف.. ويتفنَّن النَّمل بطرق الادِّخار حسب أنواعه، فهو يقطع حبَّة القمح نصفين، ويقشِّر البقول، لئلا تنبت من جديد، أو يتركها عدَّة أسابيع في تهوية وحرارة معينة ويسمح لها بعدها بالإنبات، فتنمو ويظهر لها جذر وساق صغيران، حيث يقوم بقطعها وتجفيفها، لتصبح مادَّة جاهزة يتغذَّى عليها طوال مدَّة الشتاء، كما أنه يقوم بتسميد أوراق الأشجار المقطَّعة ببراز نوع معيَّن من الفراشات، وعندها ينمو عليها نوع من الفطريات يسمى (خبز الغراب)، يقوم النَّمل بالتغذِّي عليه. كما أن بعض أنواع النَّمل يجلب بيوض المنِّ إلى عشِّه، وعندما يفقس يحمله إلى الخارج ويضعه على النباتات الَّتي تفرز الندوة العسلية، ثمَّ يعيده إلى عشِّه في الليل ويحلب منه هذه الندوة العسلية، حيث تعطي كلُّ حشرة ما يقارب ثمانٍ وأربعين نقطة من هذه الندوة خلال أربع وعشرين ساعة، علما بأنه يبني لهذه الحشرات حجرات خاصَّة لتسكن فيها.
ويعرف النَّمل بعضه بغير علامة، والتوادد موجود بين أهل القرية الواحدة فقط، وماعدا ذلك فعداء مستحكم، حيث يمكن أن تنشب الحرب بين عدَّة قرى من النَّمل ، فينتظم في صفوف قتالية وتحدث المعارك، ويقع القتلى والجرحى، ويتَّخذ النَّمل المنتصر الأسرى ليجعلهم خدماً في قراه، ويقوم بدفن موتاه في مقابر خاصَّة به، كما ينظِّف أرضه من جثث أعدائه، حتَّى قيل بأن النَّمل أقرب الحشرات إلى الإنسان في أفعاله . وقد يصبح النَّمل قوَّة مزعجة مهلكة، شديدة الخطر على الإنسان نفسه، حيث يمكن أن يقرض دعائم المساكن الخشبية؛ حتَّى تتداعى عروشها، أو يكوِّن مستعمرات في دور الكتب، حيث يقوم بإتلاف الورق أكلا وتمزيقا .
ومن طريف ما ورد في السُنة عن سلوك النَّمل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا النَّملة فإن سليمان عليه السَّلام خرج ذات يوم يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنّا خلقٌ من خلقك لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين اسقنا مطراً تُنبت لنا به شجراً وتُطعمنا به ثمراً، فقال سليمان: ارجعوا فقد كُفيتم وسُقيتم بغيركم » (رواه الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) .
وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه خرج في نزهة إلى بستان، ثمَّ عاد إلى بيته فوجد نملة قد علقت على ثيابه، فقال: لقد أَبْعَدْنَا عليها المسير، ثمَّ حملها وعاد بها إلى البستان الَّذي كان فيه ..