يواصل المشي حتى يصل إلى مبنى الاهرام في شارع الجلاء بوسط القاهرة في التاسعة تماما بالضبط، حتى أن موظفي الأهرام كانوا يقولون: إننا نضبط ساعاتنا يوميا على موعد وصول نجيب محفوظ. وأطلق أحد رسامي الكاريكاتير عليه وصف «الرجل الساعة».
وعلى عكس طقوس العمل الصارمة، يتميز نجيب محفوظ بوجه بشوش، وروح مرحه مع أصدقائه، وهو يضفي على مجلسه معهم جوا من المرح والدعابة بقفشاته وتعليقاته اللاذعة، فالجلوس معه متعة بذاتها حتى وإن ظل صامتا. حسبما يقول الفنان التشكيلي محمد الشربيني أحد المقربين من محفوظ. ويتابع الشربيني «كلنا نتساند على نجيب محفوظ، سواء بشخصه كرمز تفانى في العطاء بنبل وشرف، أو بأعماله التي ستبقى حية وممتدة في الزمان والمكان». وبعد تكرمات مصرية وعربية على أعلى المستويات، نال محفوظ جائزة نوبل للآداب. ويتنهد وهو يتذكر سطورا من كلمته إبان تسلمه الجائزة عام 1988 «أنا بن حضارتين تزوجتا في عصرين من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الفرعونية، لن أحدثكم عن اهتدائها إلى الله سبحانه وتعالى، وكشفها فجر الضمير البشري. وثانيتهما يا سادة عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهي الحضارة الإسلامية، لن أحدثكم عن دعوتها الى إقامة وحدة وطنية تنهض على الحرية والمساواة والتسامح. قدر يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين، وأن أرضع لبانهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما». نوبل التي دونها محفوظ لأول مرة في سجل العرب الأدبي والثقافي عن جدارة واستحقاق، حاول البعض تشويه فرحته بها، من أبرزهم وأعنفهم الكاتب المصري يوسف إدريس، الذي صور حصول محفوظ على الجائزة بأنه «مكافأة» له على موقفه المؤيد لاتفاقية «كامب ديفيد» وعملية السلام مع إسرائيل. وقال إدريس وقتها إن مسؤولين بالأكاديمية السويدية عرضوا عليه الحصول على الجائزة مناصفة مع كاتب إسرائيلي لكنه رفض بشدة. وحسب مقربين من محفوظ لم يكف إدريس عن مهاجمته، إلا بعد تدخل من القيادة السياسية آنذاك. ذلك المشهد وغيره عبر 95 عاما من التاريخ الذي يحمله محفوظ على ظهره، ربما يفسر التسامح المرير التي تتخفى وراء وجهه. فمحفوظ لم يكن في أي يوم من الأيام «رجل معارك» في الواقع الأدبي والسياسي في مصر، وقد تحاشى دوما صخب هذه المعارك، وربما لذلك لم تنزلق قدماه يوما إلى السجن في أي مرحلة من حياته، وعلى هذا المنوال كان حديثه في جلساته وندواته لا يشارف السياسة، بل يتجنب الحديث عنها ولو اضطر إلى ذلك يكون كلامه مقتضبا جدا وغير مباشر، وأحيانا بصورة رمزية. كان نجيب يؤكد دوما أن معركته الحقيقية مع الورق، مع فعل الكتابة والإبداع نفسه. لكن البعض كان يرى فى ذلك «عدم شجاعة» سياسية، على اساس أن نأي محفوظ بنفسه عن القضايا السياسة، سببه انه يخاف السجن. لكن إبراهيم فتحي الناقد المعروف يرى أن آراء محفوظ السياسية وغيرها ليست، هي التي صنعت نجيب محفوظ، لأن رؤيته وفلسفته الحقيقية تتجلى في رواياته وأعماله الإبداعية «لذا يجب ألا يحكم على تصريحاته التي أدلى بها كمواطن، ويجب ألا نعامله كسياسي، لأنه أولا وأخيرا مبدع، وأنا لا تلزمني تصريحاته السياسية، لأنني لا أقدرها ولا أدرسها، إن ما يلزمني هو علمه القصصي والروائي». لكن كيف يمكن تفسير تقلبات محفوظ السياسية، بل موقفه من السلطة عموما والذي يبدو في جوهره وكأنه موقف «المع والضد» في آن واحد، فهو مثلا تعايش وتصالح مع رجال ثورة يوليو وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ثم غضب منهم وانتقدهم بخاصة في روايات «ثرثرة فوق النيل». و«ميرامار» ثم «الكرنك» والتي كتبها بعد موت عبد الناصر، ووجه فيها أقسى أنواع الانتقاد له ولعصر. اما الرئيس الراحل انور السادات، الذي أيد محفوظ مبادرته للصلح مع إسرائيل، فقد انتقده محفوظ بشده في روايته «يوم قتل الزعيم»، والتي قال على لسان أحد أبطالها «لا خلاص إلا بالخلاص من كامب ديفيد». وبلغت السخرية مبلغها حين سخر بشكل رمزي واضح من شخصية السادات نفسه «الفعل لمناحم بيجين والزي لشارلي شابلن». صد إبراهيم فتحي كل هذا التناقض ويراه طبيعيا، مؤكدا أن هناك فارقا ـ في اعتقاده ـ بين «أيديولوجية» الكاتب والعمل الفني الخاص به. ويرى فتحي أن اضعف أعمال محفوظ هي التي اتكأت على السياسة بشكل مباشر مثل «أمام العرش» و«الكرنك»، وغيرهما «لأنه حاول فيهما أن يصب آراءه السياسية في رواياته، والعمل الفني إذا تحول إلى تحليل سياسي مجرد، وليس من دم ولحم وعظم إنساني أصبح ضعيفا، لذلك يجب أن يحاكم نجيب محفوظ من خلال عالمه الفني وليس من خلال أقواله». لكن محفوظ صاحب مقولة «إن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره»، لا يتذكر ما يؤلمه فقط، فهو بسبب طبيعته المتسامحة يتذكر ما يؤلمه وما يسعده ايضا، ويميل الى الصفح ونسيان ما يؤلم. وهو حين تعرض لمحاولة اغتيال يوم 14 أكتوبر (كانون الأول) عام 1994، وهو خارج من بيته على يد شاب عاطل ينتمي لفكر الجماعات الإسلامية المتشددة طعنه بمطواة حادة في عنقه، (المفارقة أن هذا الشاب لم يعرف محفوظ، ولم يقرأ له، لكنه سمع فتوى من أحد شيوخ المساجد تتهم محفوظ بالكفر، لأنه تجرأ على الخالق سبحانه وعلى الدين في روايته «أولاد حارتنا»)، وعلى الرغم من أن الحادث أثر على صحة محفوظ وقدرته على الكتابة والإمساك بالقلم، غير ان ذلك لم يفقده قناعاته السياسة وتسامحه، فظل محتفظا بعلاقات طيبة مع جماعة الإخوان المسلمين، بل إنه طالب أخيرا بحقهم في الظهور