البناء السردي في شعر امرئ القيس
الملخص:
يُمَثِّل الشعر الجاهلي إغراءً لكثير من الدارسين الذي ينتهجون الطرائقَ الحديثة في قراءة الأدب ، وذلك لموقعه المركزيّ في الثقافة العربية ، ولغزارة مادته ، ولقلة الدراسات الحديثة التي عُنيت به.
على أن دراسة هذا الشعر بآلية حديثة فيه مغامرة ؛ فهي خوضٌ في لجةٍ عميقةٍ ، تقتضي المواءمة بين آليات الدراسة ومادتها، بما لا يخل بكليهما، ما لم فستبدو الدراسة تعسفاً للشعر ، أو انتهاكاً للمنهاج.
وعلى هذا فإن هذه الرسالة تسعى إلى محاولة الكشف عن بناء السرد في شعر امرئ القيس من خلال الإجابة على عدد من التساؤلات أهمها:
هل يمكن أن ينبني السرد في الشعر مع اختلاف أجناسهما ؟
هل يكفي وجود نمطٍ قصصيٍّ في الشعر للقول بوجود بناءٍ سرديٍّ فيه بما تحمله كلمتا بناء وسرد من مدلولٍ منهجيٍّ ونقديّ ؟
إذا كان السرد قد انبنى في النماذج الشعرية المحددة للدراسة فكيف تم هذا البناء؟
هل أوجد الشعرُ شيئاً من الانحراف أو التعطيل لمفهومات السرد ؟
هل وُجِدَت تكوينات شعرية تستعصي على السرد أو تتمرد عليه ؟
هل أحدث السردُ تغييراً في الطبيعة الشعرية للنصوص ؟
كيف يمكن أن تتشكل هوية النص في ظل هذا التداخل ؟
وتنتهج هذه الرسالة الاتجاه البنيوي الذي عطَّل السياقات الخارجية التي كانت متحكّمة في دراسة الأدب : كالتاريخ ، وعلم النفس ، وكذا المجتمع ، والمؤلف . وتتخذ أنموذج رولان بارت في دراسته: (التحليل البنيوي للسرد) مرجعاً أساسياً ، ولا سيَّما في الفصلين الأول والثاني من البحث . ويفيد - في الفصل الثالث - من منهاج جيرار جنيت في دراسة مستوى السرد في كتابه خطاب الحكاية. وبناءً على تقسيم بارت ؛ تم تقسيم الرسالة على ثلاثة فصول ، هي :
الفصل الأول: مستوى الوظائف: وفيه تم تطبيق منهج بارت لخطوات التحليل الوظيفي ، بدءاً بتحديد الوحدات السردية في المبحث الأول ، ثم دراسة الوظائف التوزيعية ( الأنوية ) التي تأخذ اتجاهاً أفقياً في المبحث الثاني, ثم الوظائف الإدماجيـة ( القرائن ) التي تأخذ اتجاهاً رأسياً في المبحث الثالث ، ثم التركيب الوظيفي الذي يتشكل من خلال المتواليات ( الوظائف الكبرى ) في المبحث الرابع .
الفصل الثاني: مستوى الأفعال: و فيه دراسة للشخصية بحسب التصور البنيوي الذي لا يُجَسِّدها في ذات ولكنْ في عامل . وتم تطبيق نموذج جريماس للعوامل ، إذ يراه بارت قابلاً لأن يصمد لاختبار عددٍ كبيرٍ من السرود. وبهذا تم تقسيم المباحث بحسب العوامل في نصوص الدراسة . فالمرأة هي أبرز هذه العوامل وقد خُصِّص لها المبحث الأول ، يليها عامل الفرس في المبحث الثاني ، ثم عامل الناقة في المبحث الثالث.
الفصل الثالث: مستوى السرد (الخطاب): وقد تمت دراسته بالإفادة من منهاج جيرار جنيت في كتابه خطاب الحكاية ، في ثلاثة مباحث ، هي : الزمن ، والصيغة ، والرؤية السردية . ويُخَالِفُ هذا التقسيمُ تقسيمَ جنيت في إفراد مبحث للرؤية السردية ، وفي إهمال عنصر الصوت . فالرؤية عدَّها جنيت في ضمن الصيغة ، وسمَّاها التبئير . وقد تعرض للنقد في ذلك ، أمَّا الصوت فقد لاقى انتقادات أكثر لتداخله مع الصيغة . ويبدو أنَّ الصوت الذي يهتم بهوية السارد ( مَنْ يتكلم ) ؛ لا يشكل حضوراً في نصوص الدراسة التي يغلب عليها الرؤية الداخلية من خلال البطل ، ولعل حضوره في السرد النثري أكثر منه في السرد الشعري .
وقد تم اختيار نصوص الدراسة من نسخة ديوان الشاعر ، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، وقد رُوعِي في اختيار هذه النصوص تعدُّد الموضوعات التي تناولها شعر امرئ القيس ، فكانت النتيجة اختيار تسعة نصوص ، بحسب الموضوعات الآتية :
1. موضوع المرأة : وهو الأكثر حضوراً في شعر امرئ القيس ، وقد شغل النصوص : الأول ، والرابع ، والثامن .
2. موضوع الفرس : وقد شغل النصَّيْن : الثاني ، والسادس .
3. موضع الناقة : في النصَّيْن : الخامس ، والسابع .
4. موضوعات أخرى : ( البرق والسيل ، الذئب ) في النصَّيْن : الثالث : والتاسع .
وتجدر الإشارة إلى أن النصوص من الأول حتى الخامس هي من رواية الأصمعي من نسخة الأعلم الشنتمرِّي ، وهي عند أغلب الباحثين أصح الروايات وأوثقها نسبة إلى امرئ القيس ، وأن النصَّيْن : السادس والسابع من رواية المفضل الضبِّي من نسخة الطوسيّ ، وهي نسخةٌ موثوقةٌ أيضاً ، أمَّا النصَّان : الثامن والتاسع فهما من رواية الزيادات . فالثامن من زيادات نسخة الطوسي، والتاسع من زيادات نسخة أبي سهيل.
ويمكن القول إنَّ أبرز النتائج التي توصلت إليها الرسالة هي:
مثَّل الشعر في نصوص الدراسة بيئةً حاضنةً للسرد ومستوعبة له ، مما أكسب السردَ بعضَ الخصائص الشعرية ، فالزمن في نصوص الدراسة ليس متصلاً كما في السرد النثري ، فالشعرُ أكسبه خصيصةَ التجزؤ ، فبدا على هيئة كتل مجزأة ، تفصل بينها فجوات وصفية أو زمنية محذوفة . كما ينماز السرد في الشعر بأنه ينأى عن تتبع تفاصيل القص ، بل يأتي بالأحداث متقطعة ، والتفاصيل موجزة ، وإذا ذكرت في موقع ما فإنها تذكر لغرض فنيٍّ ، لا يعدو أن يكون شعريا .
تشكلت الوظائف في نصوص الدراسة في بنية قارة في ثلاث وحدات مثلت أهم الموضوعات التي تناولها شعر امرئ القيس ، وهي : وحدة المرأة ، ووحدة الفرس ، ووحدة الناقة . فوحدة المرأة تشكلت – وظيفياً – في بنية واحدة ، مختزلة في ثلاث وظائف كبرى ، هي : الخروج ، واللقاء ، والاستمتاع . ووحدة الفرس تشكلت - وظيفياً - في ثلاث وظائف كبرى - أيضاً – هي : الخروج ، والصراع ، والرواح . وتشكلت وحدة الناقة في ثلاث وظائف ، هي: الافتتاح ، والصراع ، والإنجاز .
أثبتت الدراسة أن الوصف في السرد الشعري يختلف عن الوصف في السرد النثري ، ففي حين يعطِّل الوصفُ السردَ في النثر ؛ فإن دوره التعطيلي يقل في الشعر ، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة اللغة الشعرية التي تنزع نحو العلاقات ذات المحور العمودي ، وهو ما يتواءم مع وجود الوصف الذي لا يعد غريباً على لغة الشعر القائمة أساساً على التوقف للبحث عن معنى.
يأتي الوصف مسرَّداً - في الغالب – بالأفعال ، أو بإضفاء حركة على المشبَّه ، وقد يكون التسريد شكلياً أو وهمياً ، لا يتعدى شكل الفعل وإن كان ذا مضمون تقريري.
الحذف في السرد الشعري كثير ، بسبب لغة الشعر التي تستدعي كثيراً من العلاقات غير الأفقية ، بخلاف السرد النثري الذي يقل فيه الحذف ، بسبب التتابع الخطي للزمن.
يغلب على النصوص النمط الحكائي ، إلى جوار حضورٍ بارزٍ للنمط التقريري، بسبب انبثاث الوصف في النصوص ، ولكنَّ الحضور التقريري هو حضور شعري ، يتناغم مع لغة الشعر.