إلانة الحديد وصنع الدروع
وممَّا أفاض الله تعالى على نبيِّه داوود من النعم؛ أَنْ أَلانَ له الحديد وعرَّفه كيفيَّة استعماله. وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لتشير إلى مادة الصناعة الأوليَّة وهي الحديد لدراستها والاستفادة من تطبيقاتها في الحياة العملية، وليس كما فعل كثير من المسلمين حيث اكتفَوْا بالتبرُّك بهذه الآيات وحُسْنِ تجويدها والطرب لقارئها. إنها تعطينا درساً في حسن استخدام ما أودعه الله لنا في الطبيعة من الطاقات والقوى والمعادن لنكون في مقدِّمة الأمم حضارةً ومدنيَّة، لأن الدِّين لا ينافي علوم الحياة بل يأمر بها ويسيران معاً خطوة بخطوة ويداً بيد ليحقِّقا سعادة البشرية جمعاء. وهذا ما فعله سلفنا الصالح حيث
أخذوا ما عند الأمم المتحضِّرة من مدنية وعلوم وزادوا عليها، انطلاقاً من الفهم السديد لآيات القرآن الكريم الكثيرة، الَّتي تلفت الأنظار للسير في هذا المضمار، ومنها ما نحن بصدد بيانه من آيات بيِّنات.
وفي ظلِّ هذا السياق يبدو أن داوود عليه السَّلام هو أوَّل من اكتشف خواصَّ جديدة للحديد بفضل الله وإلهامه له، وأنه يمكن تليينه وتسخيره للصناعات المدنية والحربية. فصنَّع منه الـدروع وآلات الحرب على أتمِّ النظم وأحكم الأوضاع. وروي أن الدروع قبله كانت تُصنَّع مصفَّحة، فكانت تُصلِّب الجسم وتثقِّله، فألهم الله داوود أن يصنِّعها رقائق، أو حلقات متداخلة متموِّجة ليِّنة، يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم، وأمره بتضييق هذه الرقائق والحلقات لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح والسهام، وكان الأمر كلُّه إلهاماً وتعليماً من الله عزَّ وجل.
ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة، الروح المسالمة القويَّة الَّتي يوجِّه إليها القرآن الكريم، فقد ذكر صناعة الدروع وهي سلاح دفاعي ولم يذكر صناعة الرماح وما شكل من الأسلحة الهجومية، إشارة إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يبدأ غيره من عباد الله بالاعتداء والهجوم، بل عليه أن يسالم من يسالمه، فإذا اختار الطرف الآخر العداء والحرب، فلا يواجه ضعفاً، بل يجد قوَّة تردعه وتردُّه إلى الصواب.