-
عضو جديد
الشاعر علي الجارم
دولة الامارت العربية المتحدة
وزارة التربية والتعليم
[]أولا نشكركم ع الزيارة واتفضلوا البحث
عـــــــــلي الجارم
الشاعر الكبير علي الجارم رحلة الحياة والريادة
الشاعر والنشأة :
إذا كنا نؤمن بأن لكل عصر دولة ورجالاً، فإن شاعرنا الأستاذ على الجارم رحمه الله - (1881 - 1949م ) كان من أعلام عصره ، وأشهرهم خلقا ، وعلماً ، وإبداعاً.
ولد الجارم فى مدينة رشيد، تلك التى يلتقى عندها البحران : هذا عذب فرات ، وذلك ملح أجاج ، حيث كان الشاطئ الغربى للنيل عند مصبه فى البحرالأبيض المتوسط يسمى - قدميأ - (بوليتين ) فلما قامت عليه مدينة رشيد صار يعرف (بفرع رشيد ،وفى رشيد، هذه التى يقال : إن كثيراً من أهلها من سلالة قريش ، أفصح العرب ، وفى بيت أسرة حسيبة نسيبة من نسل الإمام على بن أبى طالب ، ولد شاعرنا " على " فى الخامس والعشرين من ديسمبر عام واحد وثمانين وثمانمائة وألف واسمه الأصلى كاملا : على محمد صالح عبد الفتاح إبراهيم محمد الجارم ( ).
فعلى ( سفوح ) رشيد الخلابة ، وحول مناظرها الساحرة ، وعلى رباها الخضراء ،، وبين نخيلها الباسق نشأ الشاعرمحباً للجمال ، مفتوناً بالطبيعة ، ولقد ظلت هذه0الصورة لرشيد عالقة فى ذهن الشاعر، على الرغم من ابتعاده عنها، وتنقله بين مدن عديدة مع والده ، أو حيث قضى جل عمره فى القاهرة . فيكتب عن بلدته (رشيد) قصيدتين : الأولى: ( مصيف رشيد) عام 1939، والثانية : (رشيد) عام 1941. وفى القصيدة الأولى يقول : .
تزهى بها الأغصان والأكمــام يا ورده بين الرمال نضــيرة
ضحك الصباح ، وأشرق الإظلام با درة0البحر التى بوميضهـا
فأصولها وفروعها إلهــــام يا دوحة نبت القريض بأرضها
وتحدثت بأريجها الأنســــام يا روضة فتن العيون جمالها
لو كان للأمل الوسيم كـــلام يا همسة الأمل الوسيم رواؤه
وإنجاب عنها البحر وهو لئـام ( ) يا طلعة للحسن شاع ضياؤها
ولقد سمى (على الجارم) بهذا الاسم رغبة من أبيه فى تجديد اسم جده الأكبر (على بن أبى طالب ) t وكان الجارم كثيراً ما يفتخر بهذا النسب الشريف لبيت النبوة المطهر، والذى حق لمثله أن يفتخر به ، يقول فى قصيدة (أبوالزهراء ) :
وصانته منى عزة وإباء ( ) ولى نسب ينمى لبيك صاننى
ويقول فى قصيدة ( دارالعلوم ) :
سددتنا كرائم الأحساب ( ) إن دعانا الهوى لغير سديد
ويقول فى قصيدة ( اللغة العربية ) :
سقى العهود الخوالى كل منسكب يا جيرة الحرم المزهو ساكنه
لأنها صلة القرآن والنسب( ) لى بينكم صلة عزت أواصرها
ولقد كان لبيئة الجارم أثرها فى تكوين شخصيته وثقافته ، فالإنسان كما يقولون ابن بيئته ، حيث كانت أمه سيدة ثرية طيبة ، كما كان أبوه عالماً دينيا ولغوياً، فحمل الجارم الصفات المشتركة بين أم طيبة من أسرة اشتهرت بالتجارة ، ووالد عالم جليل ، وشاعر، ولغوى مجيد، فأصبح الشاعر ثمرة ناضجة لالتقاء عنصرين بعيدين : عنصر العلماء الذى يتميز بالطيبة ، والمحافظة ، والاعتزاز بالنفس نتيجة لنظرة العامة ، وعنصر التجار الذى يتميز بالحرص ، واليقظة ، وخفة الروح ، والمساومة من أجل الربح" ( ).
ويتذكر على الجارم هذه الفترة من حياته ، وتأثير والده عليه فيقول – فى رسالة لصديقه أحمد شوقى: - نشأت فى أسرة فتنت بالأدب ، وأغرمت بفطرتها، وباستعدادها الموروث - براوئع الشعر على اختلاف ألوانه وفنونه ، وكان أبى إذا جلس بعد العشاء، التف حوله أبناؤه فتنقل بهم من أدب إلى تاريخ إلى بحوث سلسلة فى اللغة ، ثم شعر جزل رصين ، ولقد كان - رحمه الله - كثير القراءة ، قوى الحافظة ، حسن العرض والأداء ، فكان متاعاً أن نستمع له ، وأن ترف نفوسنا حوله طليقة مرحة فى هذا الجو العجيب"( ).
ولقد أرسل الجارم - صبيا - إلى الكتاب " حيث حفظ القرآن الكريم ملحوظاًَ برعاية والده العالم الدينى واللغوى الأديب ، والذى كان (مفتى المحافظة )، ولمح فى ابنه على - الذى سماه باسم جده الأكبر على بن أبى طالب - مخايل الذكاء ورهافة الإحساس والعاطفة ، فحرص على تنمية كل ذلك بالتشجيع والدراسة والتذكرة " ( ).
ولأسرة الجارم مواقف تاريخية مشهورة ، فيذكر(الجبرتى) فى تاريخه : " أن القائد الفرنسى ( مينو) - عندما كان يحكم رشيدا - أراد الزواج ، فأراد أن يصاهر أكبر عائلاتها فأعلن إسلامه وتقدم إلى كبير عائلة الجارم - فى ذلك الوقت – وهو الشيخ إبراهيم الجارم ، لكى يزوجه إحدى ابنتيه : رقية أو آمنة ، إلا أن الجارم رفض هذا النسب مما أغضب الحاكم الفرنسى غضباً شديدا فتزوج رشيدية أخرى هى زينب بنت البواب" ( ).
ويلفت الأستاذ أحمد الشايب أنظارنا إلى استفادة الجارم الكبيرة من أصله وأسرته" ويتصل بهذه الوراثة أو يعقبها مباشرة - ما كان لأبيه من أثر مبكر فى نشأته ، فقد كان أبوه (مفتى المحافظة )، وكان - إلى جانب تضلعه فى العلوم الدينية - عالماً لغوياً، وأديباً شاعراً، فكان يجمع أولاده ، ويدرس لهم العلوم المختلفة ، ويطارحهم الشعر، ويحثهم على قراءته فى دواوين الشعراء والمرانة على نظمه ، وبذلك نجد هذه الظاهرة الفنية متصلة فى هذه الأسرة من والد شاعرنا إلى بنيه ، وطبيعى أن يكون فى يفوعة الأبناء، حتى لتعحب حين تقرأ للجارم قصيدته فى وباء رشيد (الكوليرا ) وسنه خمسة عشر عاما"( ).
قد تجاوزت فى سراك السبيلا أى هذا ( المكرب ) مهلا قليلا
الحصاد، إن أحسنوا لك التمثيلا لست كالواو، أنت كالمنجل
لم تزايل جنبيه حق يزول( ) أنت كالشيب إن دهت ابن أنثى
وهذه القصيدة لها دلائل قوية على موهبة الشاعر المبكرة ، وعلى ثقافته العلمية ، والطبية ، وسعة نظرته وإحاطته بالأشياء .
! تعليمه :
" ولما بلغ السادسة من عمره ، ألحقه أبوه بالمدرسة الابتدائية بمدينة رشيد ، حيث تعلم القراءة والكتابة ، ولعله كان بسبيل الانتظام فى هذا التعليم المدنى الذى كان يسلك به مسلكاً آخر بحيث يصبح (أفندياً لا شيخاً )، ولكن القدر كان يريد غير ذلك ، فألغيت المدرسة الابتدائية ، وانتظر من الطفل ، أو اليافع هذا النسق من التعليم ، وهنا يضطر أبوه إلى تحويل مجرى حياته ، فيدخله جامع (المحلى) برشيد"( ).
وتتعدد وظائف الوالد، وتتغير به البلاد، فيدور الجارم حيث يدور أبوه ، فمن رشيد إلى دمنهور إلى الفيوم التى كتب لها هذه القصيدة (الغيوم ) عام 1898م :
عهدكم والذكر فى البعد وفاء ساكنى الفيوم إنى ذاكر
أى شعر غرد ، أى غناء كم شد شعرى على دوحتكم
بين أظلال وأنسام وماء ( ) بلد كالزهر حسنا وشذا
وكذلك ينتقل مع والده إلى الجيزة ، فيلتحق بالأزهر الشريف ، وينتقل أبوه إلى الزقازيق ، ويظل بها الى أن تحين منيته " فينتقل جثمانه إلى مدافن الأسرة فى رشيد سنة 0ا9ا " ( ).
الجارم فى الأزهر :
ويلتحق الجارم بالأزهر الشريف مجاوراً ، ويظل بالأزهر فترة ينهل من علومه العديدة
: التفسير، والحديث ، والفقه ، والبلاغة وا لمنطق ، وغيرها، وقد التحق بالأزهر وهو فى " الحادية عشرة من عمره مع شقيقه الشيخ محمد نعمان الجارم ، وسكنا فى درب السلحدار بحى الأزهر فى غرفة بسطح أحد المنازل ، وكان من زملائه : الدكتور طله حسين ، و الأستاذ أحمد أمين ، ومن أساتذته الشيخ محمد عبده .. والشيخ سيد بن على المرصفى" ( ).
ولقد أحب الجارم أستاذه الشيخ محمد عبده (1849جـ1905)، الذى كان مجددا بين شيوخ عصره الأزهريين ، فترك تفسيرا لم يكمله ، وجدد، وخرج ، وحقق كتب الإمام عبد القاهر الجرجانى، وكان إمام مدرسة عرفت باسمه " ، وقد كان الشيخ محمد عبده يقرأ فى الأزهر، أو ملحقاته درسأ فى المنطق ، والفسلفة ، والتوحيد، كما كان يقرأ على تلاميذه دروسا فى البلاغة ، لا على نمط البلاغة التى أفسدتها الفلسفة ، بل على النمط الذى يربى الذوق ، ويرقى الأسلوب ، ولقد قرأ كتابى دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة لعبد القاهرالجرجانى، وكان هو السبب فى نشرهما، فقدم بهما معنى للبلاغة لم يكن مفهوما للناس من قبل"( ) .
وبعجب الطالب على الجارم بشيخه ، وأستاذه الشيخ محمد عبده ، فيخصه بقصيدة عام ا 90ام
وفل عزمى سبف منه محدود أطوى الدجى فإذا ما اليأس أدركنى
عزيمتى بين إقدام وتسديد ذكرت عزما من الأستاذ فاتجهت
لم يسرك الرعب قلبا غير مزءود( ) مولاى أنت علمتنى كيف الثبات إذا
فى دار العلوم :
ويترك الجارم الأزهر، وينتقل إلى دار العلوم التى أنشئت فى عام 1871م ، لتكون معهداً يتوسط بين الأزهر القديم ، والتعليم المدنى الحديث ، " و دار العلوم كانت نواة لفكرة الدراسة الجامعية ، ومن اسمها نستطيع أن ندرك منهج الدراسة فيها، فهى دار العلوم التى تضم بين أرجائها العلوم المتعددة من دينية ، ولغوية ، وأدبية ، ومدنية ، بالإضافة إلى الأساتذة الأكفاء الذين يتميزون على أساتذة الأزهر فى ذلك الوقت ، والذين حاولوا مخلصين أن يوقظوا العربية من رقدتها بعد أن نامت مع أهل الكهف مئين السنين " ( ).
ويحدثنا الأستاذ أحمد الشايب - رحمه الله - من كيفية التحاق الجارم بدار العلوم فيقول : " ودخل الجارم دار العلوم سنة 903ام بعد ما أدى امتحان ا لمسابقة فى القرآن الكريم ، وعلوم اللغة ، والأدب ، والرياضة فكان أول الناجحين ، واحتفظ بهذه الأولية طول سنى الدراسة حتى تخرج سنة 1908م"( ) .
ويقول الأستاذ أحمد العوامرى بك - فى معرض رثائه للجارم ، وهو يتذكر طلابه فى دار العلوم -: فجعلت أتفحص فيهم ، وأسبر غورهم ، فلم ألبث حتى تبينت من بينهم طالبين ، امتازا بسعة الأفق ، ودقة الحس ، وكمال الاستعداد الأدبى كان هذان الطالبان : (على الجارم ، وأحمد ضيف ) د. أحمد ضيف - رحمهما الله" ( ).
ويستطرد العوامرى بك رحمه الله – " كان على الجارم زعيم هذا الفصل :
علماً، وذكاء ، ولساناً، حاضر البديهة ، قوى المنطق ، حتى لقد كنت أعهد إليه أحياناً وأنا مطمئن النفس فى أن يلقى بعض دروسى وأنا حاضر بعد أن أكون قد دفعتها إليه من قبل ، مذكرات مكتوبة على عجل فكان يعدها إعداد الفطن ، ويلقيها إلقاء من درب بالتدريس . ولم يكن الجارم بعد مارس منه شيئا اللهم إلا ما كان على سبيل التمرين فى المدارس الابتدائية "( ).
ويظهر أن دار العلوم كانت المعهد الطبعى للجارم الشاب ، فيهيم بدار العلوم حباً حيث كان يجد متنفساً لمواهبه الفنية ، كان يدرس العلوم الأزهرية بأسلوب مهذب موضوعى تطبيقى، وكذلك الشأن فى علوم اللغة العربية .. وقد حلت الدار من نفسه محلا كريما إذا كانت معهده الطبعى، وموئل مواهبه وآماله"( ).
ويتعرض الجارم لتجربة عاطفية فاشلة مع فتاة (زينب )، والتى كانت زميلة له فى دار العلوم ويظهر أنها كانت فتاة لعوباً تتعدد بغرامياتها، وتلهو كيفما شاءت ، بينما شاعرنا يؤمن بالتوحد فى الحب ، وقد صور ذلك فى قصيدته (العاشق الغضبان )عام 1904م ، وفيها يستنكر من الفتاة مسلكها حيث يقول :
عجبا مما ترجى عجبا علقت غيرى وترجو صلتى
أويضم الغيل إلا أغلبا ( ). هل يحل الغمد سيفان معا
ويظل الجارم وفياً لدار العلوم طول حياته ، حيث كان يراها - دائماًًً – كعبة بمصر تحمى اللغة العربية ، وتنقيها من الشوائب ، وتدافع عنها، وقد سجل ذلك فى شعره فى غير موضع . ففى قصيدة (دار العلوم ) التى ألقاها عام 1927م بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشائها يقول :
ذكرتها بداوة الأعراب تخذت الحسن بنت عدنان دارا
على على غلة نمير الشباب عادها الحسن فى ذراك وروا
أثر الفين فى صقال الحراب لك دار العلوم فى كل نفس
هزه بالنماء والإخصاب ( ) أنت كالنيل كلما مس جدبا
ويبرز الأيادى البيضاء لدار العلوم على اللغة العربية فى قصيدة (اللغة العربية ودارالعلوم ) عام 1934م :
ق إليها طرائف الركبان هى فى مصر كعبة بعث الئر
ـر إلى ناعم من القيش هانى قد أعادت عهد الأعاريب فىمصـ
ـل بأفياء دوحها الفينان ( ) وأظلت بئت الفدافد والسبيـ
وينهى الشاعر دراسته بدار العلوم ، حيث يحتفظ بصدارة الطلاب طوال فترة الدراسة بها، وقد ظفر الشاعر بالشهادة من دار العلوم فى سنة 1908، وكان أول دفعته ..." ( ).
فى البعثة :
كانت العادة قد جرت على أن يبعث أول ( دارالعلوم ) إلى إنجلتر" فأقام الجارم بمدينة ( نونتجهام ) درس اللغة الإنجليزية ثم التحق بالكلية الجامعية بإكستر ومكث بها ثلاث سنوات درس خلالها علم النفس، وعلوم التربية ، والمنطق ، والأدب الإنجليزي ، وحصل على إجازة فى كل هذه المواد، وعاد إلى مصر فى اغسطس سنة 1912م" ( ).
يقول الأستاذ أحمد الشايب : " وفى إنجلترا أتقن شاعرنا اللغة الإنجليزية ، وألم بآدابها، وعرف تقاليد الإنجليز، واتخذ منهم أصدقاء، وعاش فى بعض الأسر، وتأثرت نفسه بمظاهر الطبيعة والحياة البريطانية ، والفتاة الإنجليزية وكانت هذه الدراسة والحياة خليقة أن تغير من شعره كثيراً ولكننا سنجد أنها لم تكن من العمق ، والتبكير، والقوة ، بحيث تغلب طبعه الشرقى وأدبه العربى . فكان تأثيرها بقدر. ومع ذلك لم يخل شعره من سمات إنجلترا وآثارها، وهو فى لندن ، ثم بعد عودته فى القاهرة "( ).
ولا شك أن البعثة أفادت الجارم كثيراً ، حيث اطل على الآداب الأجنبية ، وعلوم الإنجليز ولا سيما التربية وعلم النفس ، فأكسبه ذلك كله قدرا من سعة الأفق ، وقدرة على التقصى والتحليل ، وان لم يفد كثيراً فى ناحية التجديد الشعرى .
وأول ما يطالعنا من شعر الجارم – وهو طالب بالبعثة - بيتان طريفان كتبهما على صورة له ، وأرسلها لوالده بعدما استبدل الجارم زى الشيوخ بزى الإفرنج( البدلة ) يقول :
عن الأوطان معتاد الشجون لبست الآن قبعة بعيدا
"متى أضع العمامة تعرفونى ( ) فإن هى غيرت شكلى فإنى
وعندى أن لهذين البيتين أثراً نفسياً خفيًاً ، حيث أستشف من ورائهما أن الجارم الذى ألمح إلى أنه سيعود لزيه العربى الأزهرى ، لن يخالف الأقدمين فى طريقة نظمه ، بل سيظل وافياً لتراثه وماضيه ، فهو معتاد الشجون ، متذكر غير ناس لما جبل عليه .
ويعلق الأستاذ العقاد - رحمه الله - على البيتين السابقين قائلأ : " إن قافية ( معتاد الشجون ) قد تكون من ضرورات القوافى التى يقبلها الشعراء غير مختارين ، ولكن لا يسعك ، وأنت تتوقف لديها أن تنسى أن لابس القبعة الذى قالها قد وضعها فى دار الغربة ، وان الشجون ترد هنا على البال ، ولا ترد كلمة أخرى بديلا عنها "( ).
ويتكاثف الضباب بلندن ، حتى ليعجزا لمبصر على السير، كأن الشمس لم تسطع ، وكأن الليل مستمر بلا انقطاع ، فيرى شاعرنا أعمى يقود مبصراً فى مقطوعته (ضحك القدر ) ، والتى تتضح فيها خفة روحه ، حيث يقول :
يمشى فلا يشكو ولا يتأؤه أبصرت أعمى فى الضباب بلندن
حيران يخبط فى الظلام ويعمه فأتاه يسأله الهداية مبصر
أنى توجه خطوة يتوجه فاقتاده الأعمى فسار وراءه
ومضى الضباب ولا يزال يقهقه ( ) وهنا بدا القدر المعربد ضاحكا
ولابد أن نشير إلى إتقان الجارم للغة الإنجليزية إتقاناً تاماً لا تشوبه شائبة ، لدرجة جعلته يبرع فى إلقاء الشعر باللغة الإنجليزية ، " واشتهر عنه إجادته لفن الإلقاء، دعته سيدة إنجليزية صاحبة مسرح ليؤدى بعض ا لأدوار التمثيلية من مسرحيات شكسبير فلبى الدعوة ، واعتلى خشبة المسرح وأدى ما عهد إليه خير أداء أثار إعجاب المشاهدين "( ).
ويقول الدكتور محمد مهدى علام : " وكان من حملى أن أدرس فى جامعة إنجليزية ، كان قد سبقنى إليها - أى الجارم - بأربعة عشر عاماً، وكنت مولعاً بالشعر الإنجليزى ، ألقيه فى حفلات الاتحاد الجامعية، وندوات الأدب ، ولا أنسى وساماً شفوياً أهدته لى الأستاذة (ووكر) التى كانت فى الجامعة منذ أيام دراسة الجارم : لقد فاجأتنى، على أثر إلقائى إحدى قصائد الشاعر (ووردرزورث ) بقولها : أنت تذكرنى بإلقاء الجارم "( ).
ويقول فى موضع آخر- رحمه ا لله – " لم أجد أحدا لغته الإنجليزية أسلوباً ونبرا، وتدفقا كأنه عاد من إنجلترا أمس سوى اثنين : على الجارم ، وعبد الحميد حسن - رحمهما الله – "( ).
وحتى بعد عودة الجارم من إنجلترا يظل متذكراً لها، متحسراً على فوات هذه الأيام الجميلة ويظهر ذلك فى قصيدة (ذكرى الغرب ) 912ام ، حيث يتذكر محبوبته ، ويصف أبنا، الإنجليز، والطبيعة الغناء. وفيها يقول :
سيرت فيك وفيمن فيك أشعارى يا دار فاتنى حييت من دار
فى العين والقلب من ماء ومن نار رحلت محنثا وللاشجان ما تركت
ومستراض لبانات وأوطار( ). كانت مجال صبابات لهؤت بها
وفى عام 1915م يتذكر إنجلترا ، ويهيج حنينه لمحبوبته ، فيكتب قصيدة (حنين طائر)، وفيها يصور نفسه طائراً متنقلاً بين الحدائق والأزهار، والأغصان ، و يتحسر على ضياع حبه الذ1ى نعم به فترة وشقى به آخر الأمر :
قدر عنى وأبعدنى كان لى ألف فأبعده
وهو مد الدهر يذكرنى أنا مد الدهر اذكره
إلى أن يقول
وشقينا آخر الزمن ( ) قد نعمنا بالهوى زمنا
فى الوظيفة :
ويعود الجارم لمصر عام 1912م ، فيعين مدرساً بدار العلوم يدرس علوم التربية النظرية والعملية ، والنفس ، والصحة المدرسية ، ويلبس زى الشيوخ مزهواً بشباب مصر، وثقافة عربية أصيلة ، وغربية طريفة ، ويمتاز بفصاحة اللسان ، وقوة البيان ، ينقل دروسه عن الإنجليزية ، ويختال بين ا لأساتذة والطلاب بوسامة الشكل وجاه المنصب ، وبراعة السلوك ، يرهبه الطلاب مخافة عتابه ، ويتقرب إليه معارفه ومتعشقوا أدبه" ( ) .
ويقول الناقد نفسه فى موضع آخر: " ولا شك أن اعتزاز الجارم بنفسه بين الأساتذة والطلاب يعود أكثره إلى أدبه : شعرا أو نثراً وفصاحته وحسن تأتيه للأمور، وإلا فغير كثير قد أتموا دراستهم فى إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، ولكن أحدا منهم لم يحتل ما كان يحتله الجارم من مكانة ، أولم يظفر بما ظفر به من نباهة
شأن ، وبعد صيت " ( ) .
وفى هذه الأثناء ينضم الشاعر إلى قافلة المتزوجين " فقد أصهر الشاعر إلى أسرة كبيرة من رشيد هى أسرة ( بدر الدين )، فتزوج منها بسيدة كريمة ، والدها على بدر الدين بك نقيب محامى الإسكندرية سالفاً، وهذه السيدة ظفرت بحظ من التعليم فى بعض المدارس العربية والأجنبية ، فكانت سندا قوياً لزوجها الشاعر الكبير، خطبت إليه سنة 1912 عقب عودته من إنجلترا وبقيت مخطوبة له حتى سنة 6ا9ا حين تزوجها، ولشاعرنا منها أولاد وبنات : محمد، وبدر الدين ، وحسن ، وأحمد، وفاروق ، وبنتان ، وبنوه ما بين مهندس وحقوقى وطبيب "( ).
وهو يصور مهجته بالزفاف ويصف متعته وسعادته فى خماسيته التى كتبها عام اا9ام ، وفيها يصف زوجته بعنوان ( ليلة وليلى) .
مشرقة الطلعة والجبين فيكن ذات حسب ودين
من عاذرى فيها ومن معينى كأنها إحدى الظباء العين
عيل بها صبرى وطاش حلمى ( )
ويعلق الأستاذ محمد الغزالى حرب على هذه الخماسية بأنها " كانت من وحى ما يسمونه (شهرالعسل) ، ،هو الشهر الأول عتب القران الميمون ، والزواج السعيد " ( ).
وقبل أن ينتقل بنا الجارم لوظيفة أخرى ، يجدر بنا أن نشير إلى أن علاقة الجارم بالولاة ، وأولى الأمر قد بدأت فى دار العلوم ، حيث كتب الجارم قصيدة حماسية خطابية بمناسبة زيارة السلطان (حسين كامل ) لدار العلوم سنة 1915م ، ودفعها الجارم لأحد طلابه ، ليلقيها أمام السلطان ومنها .
ب ولم أشتات الرعية يا مالكا ملك القلـــو
فى المارم حاتمية لك فى العلا كعب وكف
ــرار طاهرة نقية( ) لك سيرة كصحيفة الأبـــ
ثم ينتقل الجارم من دار العلوم ليصبح مفتشا لأعمال مدرسى اللغة العربية بوزارة المعارف وكان الرجل - رحمه الله - يوجه مدرسيه بما يملى عليه ضميره ويوجبه حبه للضاد، ورغبته الأكيدة فى إعلاء شأنها، وإزالة ما علق بها من شوائب عصور الضعف ، ولم يكن فى تفتيشه (روتينيا) كما يحدث الآن ، حيث صار التوجيه - فى الأعم الأغلب - مجرد حضور، وتوقيعات ، وإمضاءات دونما دور حقيقى فى رفعة شأن اللغة ، أو المدرس ، " وكان الجارم بلاء مسلطلاً على ضعاف المدرسين ، يرهبهم ويخافونه ، فإذا حل بمدرسة كان شغل المدرسين الشاغل ، فإن كلمة منه كثيراً ما تنقل المدرس، أو تؤخر ترقيته ، أو تهوى به من المدرسة الثانوية إلى ما دونها، وكان ينال المدرس الضعيف بالتوبيخ وينبه على ضعفه ، وربما غمزه أمام التلاميذ بما يغيظه ، كما كان مشجعأ للنابهين من المدرسين يتخذ منهم الأصدقاء، ويسعى لوضعهم فى المراكز الممتازة" ( ) .
ويقول ناقد آخر: " ا ثم يعود إلى وزارة المعارف فى سنة 1917م ، فيعمل مفتشا للغة العربية حيث يجعل من نفسه نموذجاً ممتازا للمفتش ، فهو أول من نبه المعلمين على المراجعة ، والبحث فى دواوين اللغة ومعجماتها فكانت مهملة منسية ، وكان السجع ، ومحسنات البديع لا تزال تجد سبيلها إلى كراسات التلاميذ، فنهض - رحمه الله - باللغة نهضة قوية بما أسداه للمعلمين من إرشاد موقنا أن ذلك هو مبدأ الإصلاح ، وأن المدارس - بعد البيوت – هى الحقل الأول الصالح لاستنبات اللغة الصحيحة التى لا تقوم حضارة إلا عليها " ( ).
ويقول الأستاذ العوامرى بك - رحمه الله - : " ورجل كالجارم لا يقنع بدورة التفتيش الآلية ولا يشبع مطامعه عمل كهذا، بل هو رجل همه الدءوب والإتقان ، وانه بصدد خدمة اللغة وتخليصها من شوائبها، وما علق بها من العامى والدخيل ...
وكان من بين المعلمين نبراساً يفزعون إليه فى المشكلات ، ويلجئون إليه فيما انبهم عليهم من المسألة . لا يترفع ، ولا يستعلى، أخ لهم وصديق وأستاذ وكان بين التلاميذ أبا عطوفا، ومرشدا رؤوفا، لا يعنف ولا يتسخط متحدب فى امتحانهم متلطف . لا تفارقه الابتسامة العذبة ، ولا البشاشة المؤنسة ، والقول اللين ، والدعابة الحلوة . فقد ضرب للمعلمين المثل الحي فيما ينبغى أن يكون عليه الأستاذ من صفات ، تربط بينه وبين تلميذه ، وتحكم بينهما أواصر الإلف ، ولم يكن الجارم فى كل أولئك بمتعمل ولا متكلف ، بل كانت هكذا فطرته . فالذين عاشروه من غير المعلمين والمتعلمين يرون فيه الإنسان الوادع السلس ، الذى لا يريد أن يعتد حبل الحياة ، ولا أن يخلق المشاكل أو يثير الخصومة "( ).
ويظل الجارم فى وظيفته يؤدى واجبه على أكمل وجه ، وينهض باللغة الجميلة من مثراتها، إلى أن يرتقى ليصبر ( مفتش أول اللغة العربية ) أو(كبير مفتشى اللغة العربية )، .. وكان يشاركه فى هذا المنصب محمد أحمد جاد المولى ، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يعين فيها مفتشان أولان للغة العربية . ويعلل الجارم لذلك " بأن رجال وزارة المعارف قدموا جاد المولى لأقدميته ، ورشحوا الجارم لعلمه ، وكاد يكون إشكالا انتهى بتعيين الاثنين "( ).
وأثناء عمل الجارم فى وزارة المعارف كمفتش للغة العربية ، يلاحظ الصعوبات فى تدريس النحو والبلاغة ، فيؤلف بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفى أمين إبراهيم - رحمهما الله - سلسلة النحو الواضح للمدارس الابتدائية فى ثلاثة أجزاء، والنحو الواضح للمدارس الثانوية فى ثلاثة أجزاء " وقد أقرته وزارة المعارف فعلا فى سنة 925ام" ( ).
وقد حظى هذان الكتابان بشهرة واسعة كانا يستحقانها، وقد أشاد بهما كل من طالعهما . يقول د. محمد عبد المنعم خاطر: "... الجارم ومصطفى أمين قد ابتكرا - بتأليف النحو الواضح - طريقة فذة رائدة فى هذا المجال ... وفى الحق أن هذا الكتاب قد أفاد العربية والنحو العربى فائدة عظيمة ، فالمؤلفان بأسلوبهما العلمى المتأدب ، وفهمهما العميق لقواعد اللغة ، وتفانيهما فى سبيل خدمة العربية يعتبران أول رائدين فى هذا المجال"( ).
وينقل الناقد نفسه قول الأستاذ إبراهيم مصطفى فى كتابه (إحياء النحو) : " لقد أراحت كتب النحو الواضح مئات من المعلمين ، ويسرت على ألوف من المتعلمين ، وأن أزاحت عن هذا العلم سحباً من النفور والكراهية كانت تحيط به ، وتصد المتعلمين ، ثم شاعت فى البلاد العربية فصارت كالمنهاج لتعليم النحو، وأحدث أسلوبها فى الشرح والتأليف مدرسة أخذ المعلمون يتبعونها، ويؤلفون على مثالها محاكين أو مقلدين"( ).
وليس أدل على شهرة هذه الكتب من أن تتعدد طبعاتها حتى بلغت الخمسين ، وقررت أجزاؤه فى مدارس الشام ، والعراق ، والأردن ، والسعودية حينا طويلا من الدهر"( ).
" وما تزال كتب النحو الواضح تدرس - إلى الآن - فى جامعة كامبردج ، وجامعة اكسفورد، ولا يحظى الطلاب بشهادتيهما - يقصد دارس القسم العربى إلا إذا اجتازا امتحانا فى النحو من كتاب النحو الواضح"( ).
وعندى أن عبقرية الجارم وزميله فى تأليف هذه الكتب راجعة إلى :
* القدرة على تحديد مواضع الصعوبة فى النحو العربى .
* القدرة على صوغ ا لأمثلة ، واتباع الطرق التربوية فى الشرح والتحليل ، وقد استفاد ا لمؤلفان من دراستهما لعلم النفس ، وعلوم التربية ، والمنطق .
* الإيمان بأن النحو العربى جميعه يمكن درسه بتبسط ، وفهمه بطرق ممكنة ، بدلاً من الذين نادوا بحذف أبواب كاملة من النحو، وليست صعوبة النحو وكذلك نال كتاب (البلاغة الواضحة ) من الشهرة والذيوع والانتشار مثلما لاقى صاحباه فالكتاب يتميز بطريقة مرض مبتكرة محببة ، وأمثلته من عيون الشعر والنثر، وتدريباته المجابة وغيرها من روائع الإبداع العربى ، ثم يأتى (دليل البلاغة الواضحة ) ليتمم الفائدة بحل النماذج والتدريبات ، وشرح ما استعجم منها ، يقول الدكتور محمد مبد المنعم خاطر: " فالجارم وصاحبه قد بلغا القمة ، ومن منا لا يعترف للبلاغة الواضحة بهذا الفضل الذى حل عقدة السعد للتفتازانى وأمثاله ؟، ومن منا لم يشعر بهذه الهزة القوية التى سيطرت على انفعالاته وهويدرس البلاغة الواضحة فيتذوق بلاغة العرب ، وفنون البلاغة الثلاثة ويتقنها "( ).
ويصرخ المخلصون للضاد صرخات متوالية منذ أمد بعيد لتنهض وزارة المعارف ، أو وزارة التربية والتعليم فتفك القيد من هذه الكتب ، وتعيدها لتدرس لأبنائنا عسى الله أن يمن عليهم بحب لغتهم وتذوقها . يقول أحد النقاد " إن أقلام التاريخ المنصف لتطالبنا فى إلحاح بإطلاق سراح هذه الكتب ... إن الثقافة المصرية فى حاجة ملحة إلى هذه الكتب .. فإلى متى نبخس الناس أشيائهم ونحارب الأدباء فى قبورهم ... ؟" ( ).
ثم ينتقل الجارم إلى متنه الذى تربى وترعرع فيه ، ينتقل عميداً لدار العلوم ، ويظل عميداً بالنيابة لها إلى أن يبلع سن المعاش سنة 1942م.
وقد استمرت مرحلة الوظيفة فى حياة الجارم حوالى ثلاثين سنة ( 1912 :1942) حفلت بإنتاجه الشعرى المميز، والمختلف ا لأغراض ، وا لمتفاوت الروح والعاطفة ، ونستطيع أن نقف قليلاً أمام أهم الأحداث التى مرت بالشاعرفى هذه الحقبة الزمنية ، والتى عالجها فى شعره.
كتب الجارم قصيدتين عن الحب والغرام فى عام 1916،
* الأولى : (الحب والحرب ) .
* والثانية : (الحب ) .
ومن القصيدة الأولى :
وسلوت كل مليحة إلاك مالى فتنت بلحظك الفتاك
ومضلتى وهداى فى يمناك يسراك قد ملكت زمام صبابتى
وإذا هجرت فكل شيء باك ( ) فإذا وصلت فكل شيء باسم
وقد غنت ا لمطربة أم كلثوم ثلثى القصيدة ، فانتشرت وزادت شهرة القصيدة على شهرتها السابقة . وفى عام 1921 ، يلقى الجارم قصيدة بين يدى سعد زغلول باشا زعيم الأمة ، يمتدح فيها السلام الداخلى، وتوحد عنصرى الأمة قائلا :
وكنت للرحمن حزبا ألفت بين العنصرين م
لمصر إخلاصا وحبا نبذوا الشجار وأبدوله م
وأقبلا جنبا فجنبا ( ) وسعى الهلال إلى الصليب م
وتفيض شاعرية الجارم العذبة ، ويبرز وفاؤه للراحلين من أصدقائه وأساتذته ، فيرثى إسماعيل صبرى 1923م ، ثم يرثى عاطف بركات باشا الذى كان وكيلاً للمعارف عام 1924م، ويرثى الشيخ عبد العزيز جاويش عام 1927 م ، ويرثى سعد زغلول عام 1927، ويرثى داود بركات 1933، ويرثى أبا الفتح الفقى عام 1936م ، ويرثى عبد الوهاب النجار 1942 ، وغيرها من المراثى التى يحفل بها ديوانه الضخم ، ومن رثائه للشيخ النجار:
عليه بعده باب وقفل مضى (النجار) والعلياء حصن
فبدد بعده للعلم شمل به جممع الحجا للعلم شملا
وما هى غير أسياف تسل له حجج يسميها كلاما
علمت بأن ماء البحر ضحل إذا فاضت بنابعة خطيبا
وقول صادق النيرات فصل ( ) بيان مشرق اللمحات زاه
ويصاب الجارم فى بكره (محمد) وفى فلذة كبده النابغة طالب الهندسة عام 1935م عن تسعة عشر ربيعاً ، فتخور قوى الشاعر، فقد كان يعده ليكون سنده وعونه ولكنه يحتسبه عند الله- تعالى - والغريب أن الجارم لم يفرد ابنه بمرثية خاصة ، كأن الحزن قد أحاط به ، وامتلك عليه جوانبه فسد عليه منافذ القول إلا قليلا ، فقد كان يضمن رثاء ابنه فى مرثياته للآخرين مثل مرثيته لأبى الفتح الفقى، ومرثيته لعبد الوهاب النجار.
وفى مرثيته للشيخ النجار يهتاج لابنه الفقيد، والحزن يجدد الحزن والرثاء بالرثاء يذكر ، فيقول :
وتعذيب الذبيحة لا يحل أشرتم بالرثاء فهجتمونى
ومنها قوله فى رثاء ولده :
يرف من الشباب ويخضل بنفسى فى الثرى غصنا رطيبا
ويلثمه لدى الإمساء طل تضاحكه لدى الإصباح شمس
سمعى حلى غانية يصل كأن حفيفة نضرا وريقا
يميل بصدرها الخفاق طفل يميل به النسيم كأن أما
فليس لقده فى الحسن شكل إذا اتبهت غصون الروض شكلا
وإن الحب تبذير وبخل ضننت به وجدت له بنفسى
وأهنأ فى ذراه واستظل وكنت أشم ريح الخلد منه
بدوحته فما نفعت لعل وقلت : لعله يبقى ورائى
أطاح به ؟ وأى سرى يحل ؟ فسل عنه العواصف : أى نوء
يذوب أسى عليه ويضمحل نأى عنى وخلف لى فؤدا
وجرح القلب دام لا يبل ( ) يبل على التداوى كل جرح
وفى عام 1927م تحتفل العروبة بأسرها بتكريم شوقى بك ( 1868جـ1932 ) ومبايعته بإمارة الشعر، وقد كان الجارم لسان شوقى الناطق بقصائده ، فلم يكن
أمير الشعراء- رحمه الله - ذا لسان طلق ، ولم يكن يأمن على قصائده أن يلقيها إلا
البلبل الصداح الغريد على الجارم ، فينفعل الجارم بهذه المناسبة ، ويذهب ليحيى أستاذه وصديقه شوقى برائعة من روائعه . ومنها :
تفتح للنور أبصارها وجئت لمصر كعيسى المسيح
كأن من الوحى أفكارها بآى تفصلها محكمات
وترجع للدين هتارها ترد الشبيبة للصالحات
تجازى الخمائل أمطارها جزيت بشعرك شعرا وهل
وكنت بفضلك مهيارها ( ) فكنت شريف قوافى البيان
وقد ألمح الجارم فى البيتين الأخيرين إلى منزلة شوقى الكبيرة من نفسه ، حيث اعتبر الجارم نفسه بالنسبة لشوقى كمهيارالديلمى ( ت 428 هـ ) بالنسبة للشريف الرضى (159-6402)، وهى علاقة التلميذ بأستاذه .
وقبل أن نترك ( شوقى والجارم )، نشير إلى مرتبة الجارم الرائعة فى أستاذه ، وصديقه الأثير شوقى، وذلك فى حفل تأبين المرحوم شوقى بك فى دار الأوبرا سنة 1932م ، وقد حضر بعض شعراء الدول الأوروبية ، وفى هذه المناسبة ، وبهذه القصيدة اطمأن الغيورون من أبناء مصر إلى أن إمارة الشعر بعد شوقى باقية فى مصر على يد الجارم ، ولن تتحول لدولة عربية أخرى، إذ كان الحاضرون فى وجل بعد سماع ( الأخطل الصغير) بشارة عبدا لله الخورى ( 1885جـ1968)، وأدع المجال لشاهد على
تلك الحادثة رأتها عيناه ، وسمعتها أذناه ، ألا وهو الأستاذ (سعد اللبان ) وزير المعارف السابق ورئيس جمعية دار العلوم ) من كلمته فى تأبين الجارم، حيث يصف حفل تأبين شوقى، وقد كان مشرفا عليه ، يقول : " وبدأ الاحتفال ، وتبارى شعراء العروبة وخطباؤها يتعاقبون على المنبر يؤبنون ، ويصورون من فجيعة البلاد، ووقف الأخطل الصغير بشارة الخورى يلقى مرثيته ، وأنشد قصيدته التى مطلعها : قف فى ربا الخلد واهتف باسم شاعره ... وتعالى هتاف الإعجاب من كل الجوانب ، وهمس هامس : ذلك ( أى بشارة ) شاعرالعربية اليوم، وهمس آخر: لقد انتقلت زعامة الشعر من مصر إلى لبنان ، وتلفت المصريون حواليهم فى الحفل يفتقدون ( شوقى ) إشفاقا على زعامة الشعر أن يطوى لواؤها الذى رفعه شوقى خفاقا على رأسهم ، ثم جاء دور الجارم، فصعد المنصة ، وأخذ فى إنشاده : أرأيت القلوب الواجفة حين تسكن ؟ والنفوس القلقة كيف تستقر؟ والنظرات الحائرة كيف يعاودها - بعد الحيرة - الهدوء ؟ فإن كان من حق أحد بعد شوقى أن يزعم أنه أحق بإمارة الشعر، فلن يكون ذلك الشاعر إلا فى مصر، وحفظ الجارم لمصر مجدا أديبا كادت تفتقده " ( ).
ولسنا فى حاجة لنزيد على هذا التقرير البليغ لشاهد عيان رأى، وسمع كيف احتفظ الجارم - رحمه الله - بإمارة الشعر فى مصر، فلم يجرؤ أحد على منازعته ، وظلت مصر- كما هى عادتها - زعيمة الشرق فى الشعر.
والقصيدة المشار إليها للجارم (رثاء شوقى )
تقع فى خمسة وتسعين بيتا ، جمع فيها الجارم كل ما يرفع شوقى إلى القمة الشماء التى لا تدانى، ويستهلها
الجارم ببراعة الاستهلال - كعادة كل قصائده - حيث جعل شوقى (كالبحترى ) ،
وموسيقاه كغناء ( معبد ) المغنى المشهور فى بدايات الدولة الأموية فيقول :
أوبكيم لمعبد ألحانه ؟ هل نعيم للبحثرى بيانه؟
بعد ما قصف الردى ريحانه؟ أو رأيتم روض القريض هشيما
إذا رجع الصدى تحنانه مات يا طير صادح تسجد الطير
صائب الرمى من سهام الكنانة مات ( شوقى ) وكان أنفذ سهم
وأبك للدهر قلبه ولسانه ( ) أبك للشمس فى السماء أخاها
ويكثر شعر الرثاء عند الجارم فى أواخر هذه الفترة ، وتمتلئ نفسه حزناً علىالراحلين ، فيعرف حقيقة الدنيا وهو الذى عاشها محافظاً متديناً، تمتلئ نفسه بالحكمة ، ثم نراه فى عامى 1937، 1938وقد " ارتفعت شاعرية الجارم الإنسان الشاعر إلى أرفع مستوى تزهى به الإنسانية لأى شاعر آخر فى القديم والحديث على السواء ، وذلك فى قصيدتيه ، بل معلقتيه الإنسانيتين الخالدتين : معلقة (الأعمى ) وتبلغ سبعة وسبعين بيتا، ومعلقة (الشريد) وتبلغ ستة وثمانين بيتاً " ( ).
ويقول الناقد نفسه : " وأرونى شاعرا آخره - كائنا من كان - له مثل هاتين المعلقتين الجامعتين الرائعتين كماً وكيفاً من تحلل نفسى ، وتحليل اجتماعى لا يباريان" ( ).
ففى قصيدة (الأعمى) التى ألقاها فى حفل أقامته جمعية العميان لحث المحسنين على التبرع لهذه الفئة حتى تزداد العناية بهم ، ومنها يقول الجارم على لسان الأعمى مصورا حياته الرهيبة المرعبة فى صورة رائعة تأخذ بالألباب :
لاهث فوق شامخات جبال مترد فى هاويات وهاد
ضحك الجن أو نحيب السعالى عند صحراء للأعاصير فيها
لك ما شئت من نسيج الرمال لم يزرها وشى الربيع ولكن
أو بنى الإنس حولها من مجال ليس للطير فوقها من مطار
أديم وعر كحد النصال رهبة تملأ الجوانح رعبا
ئش ما ضاق ذرعه بمحال ( ) وامتداد كأنه الأمل الطا
وفى القصيدة الثانية (الشريد) يمسك الجارم بمبضع المحلل النفسى الذى يشرر أمراض المجتمع ، ويضع طرق العلاج الناجح ، حيث رأى أن هذا (الشريد) إذا لم يجد مأوى ، ولم يجد من يحنو عليه ، فإنه سوف ينقلب أداة تدمير لنفسه ولمجتمعه ، كما يرى أن إصلاح المجتمع بأسره يبدأ من إصلاح الأسرة .
من عديد يسخر من حصره ! كم شارد فى صر يا كثرة
فصال يبغى الثأر من مصره ألقته مصر هملا ضائعا
يكرع ملئ الفم من مره غاص من الآثام فى آسن
وضاق بالسخط على عصره كم ضاق من شقوة عصره
وشوكه كالنصل فى ظهره شجا بحلق الوطن المفتدى
فكل شيء ضاع فى إثره إذا هوى الخلق وضاع الحجا
ما دمر الإفساد فى قطره ( ) من يصلح الأسرة يصلح بها
فى المجمع اللغوى :
يصف العقاد - رحمه الله - الجارم فى قصيدته التى يرثيه فيها بقوله :
" لعلى " يغنى غناء السمى لست أوفيه وصفه إن وصفا
ركن فى المجمع اللغوى( ) علم فى الديار صناجة فى الحفل
نعم ، لقد أصاب أستاذنا العقاد، عندما وصف الجارم بأنه علم الديار، وصناجة الحفل ، وركن فى المجمع اللغوى .
فلقد كان الجارم أحد المؤسسين للمجمع اللغوى ، حيث صدر الأمر من الملك
( فؤاد ) فى أكتوبر 933ا بتأسيس المجمع اللغوى وظل الجارم - رحمه الله – عضواً بالمجمع حتى وفاته سنة 1949م .
ولم يكن الجارم بالعضو الخامل ، الذى يكتفى بحضور الجلسات وكفى، وإنما كان عضواً عاملاً فى. معظم لجان المجمع ، لا يدع فرصة إلا ويتحدث ، ولا يترك قصيدة إلا وتجد له رأياً صائبا فيها، يصفه الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازنى : " كان الجارم معنا يوم الاثنين فى المجمع " وكان أعلانا صوتاً وأكثرنا حركة ، والواقع أنه عضو فى المجمع لا يعوض ، فقد كان من أكثر أعضائه عملاً فى اللجان . فقد كان عضواً فى لجنة الأدب ، ولجنة تيسير الكتابة ، ولجنة المعجم الوسيط ، فقد كان لا يتخلف من جلسة للجنة ، أو لمجلس المجمع أو مؤتمره ، وكان يدرس ، ويعد ويحضر، ويقترح ، ويناقش، ويجادل بقوة ، ،لا يكتفى بالحضور لمجرد أداة الواجب ، وكما قال لى الأستاذ أحمد أمين بك : " كان عضواً نافعاً جداً، خسارة المجتمع بوفاته عظيمة ، ذلك أنه كان رجلاً جاداً مخلصا يعرف واجبه قبل أن يعرف حقه ، وكان - إلى هذا - واسع العلم ، والاطلاع ، حاضر البديهة سريع الخاطر لبقا فى علاج المعضلات والمشكلات ، وفى التوفيق بين المختلفين ، وكان - فوق هذا ، أو قبله أديبا شاعراً، ما فى ذالك شك أو خلاف" ( ).
وإذا كان المازنى - رحمه الله – وهو زميل الجارم فى المجمع اللغوى – شهد له هذا الشهادة الرائعة ، فإننا نود أن نستعرض - فى عجالة - بعضاً من نشاطه المجمعى كما جاء فى كتاب (المجمعيون فى خمسين عاماً ) للدكتور محمد مهدى علام . حيث يقول : نشاط الجارم فى المجمع .
q اشترك الجارم فى كثير من لجان المجمع مثل :
* لجنة العلوم الاجتماعية والفلسفية .
* لجنة الأدب
* لجنة اللهجات ونشر النصوص .
* لجنة الأصول .
* لجنة الكيمياء
* لجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم .
* لجنة المعجم الوسيط .
q المقالات والبحوث التى ألقاها أو نشرت له فى المجلة :
- الترادف (المجلة ج ا ص 303) .
- مصطلحات الشئون العامة ، شرحها وجوع شواهدها (المجلة ج 3ص 110 ).
- طريق تكميل المواد اللغوية (المجلة ج 3ص اا2) .
- المصادر التى لا أفعال لها (المجلة ج 4ص 225) .
- الجملة الفعلية أساس التعبير فى اللغة العربية (د 15 جلسة للمؤتمر - المجلة ج 3 ص 347) .
- هذا عدا عدة قصائد ألقاها فى مفتتح بعض الدورات ، أوفى تأبين بعض الأعضاء، مثل المرحومين : الإسكندرى ، ونلينو، وأنطوان الجميل .
q اقتراح باختيار المجمع مختصين بشئون العلوم العربية لإخراج المصطلحات العلمية القديمة من الكتب العربية القديمة ويعرض كل نوع على اللجنة المختصة (د4ا جلسة 7 للمؤتمر) .
q قدم للمجمع مشروعا بتيسير الكتابة العربية ( د10 جلسة 9 للمؤتمر- تيسير الكتابة العربية ،112) ، وكان من المعارضين لمقترح المرحوم ) الأستاذ عبد العزيز فهمى بإحلال الحروف اللاتينية محل العربية ، وله تعليق عليه ( د 1 جلسة 15 للمؤتمر تيسير الكتابة ، ص 50).
q مثل المجمع فى عدة مؤتمرات ، مثل المؤتمر العاشر للجمعية الطبية المصرية ( د5 جلسة 22 ) والمؤتمر الثقافى للجامعة العربية ( د3 جلسة 20للمجلس ) ( ) .
ومن العرض السابق يتأكد لنا مدى الجهد العظيم الذى كان الجارم يبذله فى المجمع ، هذا الجهد النابع من إخلاصه الشديد، وحبه النادر المثال للغته الجميلة وغيرته الشديدة عليها، ورغبته الأكيدة فى بعثها صافية نقية مطهرة تواكب ركب التقدم والتحضر، لا بحذف أبواب منها، ولكن بتجديدها، وتنقيحها، وإعادة عرضها عرضا شيقا مثيرا ، فقد كان يرمى إلى تطويع اللغة المحافظة التامة على قواعدها وحدودها .
وعندما يضع العضو ( عبد العزيز فهمى باشا) مشروعاً لإصلاح الحروف العربية يتضمن استبدال الحروف اللاتينية بها، تصدى له الجارم وعارض مقترحه بمقترح آخر، كان فيه ابن عذرته مع الإبقاء على الحروف العربية كما هى ، فاضطر عبد العزيز فهمى باشا لأن يعترف للجارم قائلا : " ا الجارم أستاذى وأستاذ غيرى فى النحو والصرف ورسم الكتابة غير منازع والطاعة والتسليم له واجبان "( ).
وقد كانت قصائده الرنانة تملأ قاعات المجلس فى افتتاح الدورات ، وفى تأبين أعضاء المجمع وغيرها، وله فى ذلك قصائده ، بل معلقاته ، ووحيه الرائع . فله قصيدة أرسلها لصديقه أحمد لطفى السيد بمناسبة انتخابه رئيسا لمجمع اللغة العربية ، سنة 1945 ، وقصيدة يرثى فيها أعضاء المجمع الأستاذ أحمد
الإسكندرى ، وحسين والى ، ونيلنو المستشرق الإيطالى عام 939ام ، وقصيدة فى افتتاح دورة الانعقاد الثانية لمجمع اللغة العربية 1939م ، وقصيدة فى افتتاح الدورة الثالثة 934ام ، ويرثى أنطون الجميل باشا عضو المجمع سنة 948ام"(
ونلتقط خيطا سريعا من قصيدته التى ألقاها فى افتتاح دور الانعقاد الثالث سنة 1934م ، وتقع فى مائة بيت ، وهى درة فريدة ، استعرض فيها الجارم تطور اللغة العربية منذ العصر الجاهلى إلى العصر الحديث ، مرورا بصدر الإسلام ، ودور القرآن فى الحفاظ عليها، ثم الحرب الضروس التى تواجهها اللغة من الترجمات ، وممن يكيدون للإسلام . وأهله ، ولغته من الأعاجم وغيرهم . وفيها يقول الجارم :
على الفصيح فيا للويل والحرب ! والترجمات تشن الحرب لاقحة
ناء وأمثاتله منا على كثب نطير للفظ تستجديه من بلد
لعينة بارق من عراض كذب كمهرق الماء فى الصحراء حين بدا
من لا يفرق بين النبع والغرب أزرى ببنت قريش ثم حاربها
يصول بالخائبين : الجهل والشغب وراح فى حملة رعناء طائشة
إلى دخيل من الألفاظ مغترب ؟ أنترك العربى السمح منطقه
لمن يميز بين الدر والسخب وفى المعاجم كنز لا نفاد له
حتى لقد لهثت من شدة التعب كم لفظة جهدت مما نكررها
لم تنظر الشمس منها عين مرتقب ولفظة سجنت فى جوف مظلمة
هنا يؤسس ما تبنون للعقب يا شيحة الضاد والذكرى مخلدة
بمثله فى مدى الأدهار والحقب ( ) هنا تخطون مجدا ما جرى قلم
ونأخذ من كلمة الأستاذ أحمد العوامرى بك خلاصة نافعة عن جهد الجارم فى المجمع اللغوى. يقول الرجل : " كان عضوا نشطا فى مؤتمر المجمع ، ومجلسه ، ولجانه ، قوى الحجة ، ساطع البرهان . تسعفه ذلاقة لسان ، وقوة بديهة ، وشدة عارضة ، وتزينه تؤدة فى القول ، ورزانة من الجدل ، وهدوء فى النقاش ... والمتتبع لمحاضر المجمع منذ إنشائه يعجب مما للجارم فيه من نشاط متصل ، وماله من جهد دائب فى كل ما تناوله من بحوث ، وما انتهى إليه من قرارات ... وإذا ذهبت أحصى بحوثه واقتراحاته ، وأعرض لها واحدا واحدا، ولما بذله معنا من جهد فى إخراج مجلة المجمع ومحاضر جلساته ، لأبى على الوقت " ( ).
الجارم والرواية التاريخية :
وكما شغل شوقى - رحمه الله - الناس قبيل وفاته بمسرحياته الشعرية ، يشغل الجارم الناس - أيضا - قبيل وفاته برواياته التاريخية ، وهى :
فارس بنى حمدان ، الشاعر الطموح ، خاتمة المطاف ، شاعر ملك ، هاتف من الأندلس ، الفارس الملثم ، مرح الوليد، سيدة القصور، غادة رشيد .
وعلى الرغم من أن حديثنا الأصلى من الصورة الفنية فى شعر الجارم ، إلا أننا لا نرى غضاضة - ونحن نستعرض بعض الجوانب الهامة من حياته - أن نتعرض لدوره فى تأليف الرواية التاريخية .
يقول العوامرى بك : " وهذا الرجل المرهق بالعمل ، المحلق ليلاً ونهارا فى شعره وقصيده - يخرج علينا فى الأعوام الستة الأخيرة – وهو أحوج ما يكون إلى الراحة والجمام . بثمانى روايات هى من مفاخر ما كتب فى القصص التاريخى بالعربية ... والعجب من الجارم الذى لا مهد لنا به من قبل قصاصا، كيف استوت له هذه الملكة في كهولته ، وكيف حذق أن ينسج من خيوط التاريخ الجافة هذا النسيج البديع " ( ).
ولن أطيل فى هذا المجال ، ولكن سأكتفى برأى الأستاذ (عباس حسن ) فى كتابه (المتنبى وشوقى ) المطبوع عام 1370هـ ، ا95ام . قال فى ص 312ما نصه :
" بقى من خصائص شوقى التى امتاز بها على المتنبى النثر الرائع حقا، فله فى هذا الميدان كتاب سماه " أسواق الذهب " ، وما أحسبنى مغاليا إذا قلت : إن النثر الأدبى البليغ ، والنثر العلمى المتأدب الرفيع لأديبنا المرحوم الأستاذ على الجارم ، ليمتاز به الجارم على المتنبى، وشوقى، وسائرشعراء العرب قديما، وحديثاً كما تنطق بذلك كتاباته النثرية الصادرة عن موهبة فنية أصيلة جعلت منها جميعاً سلاسل الذهب لا مجرد (أسواق الذهب) ( ).
ومن هنا ندرك أن الأستاذ على الجارم - رحمه الله - وهبه الله – تعالى - القدرة الشعرية فحلق فى سماواتها العلى، وكذلك منح القدرة النثرية فكان رائدا كبيراً من روادها، وقلما تجتمع هاتان الموهبتان لأديب واحد فيبرع فيهما جميعاً .
وكتبه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وخدمة
-
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى