ندوة المنال ( المسرح و الإعاقة )

الإعاقة و الإبداع المسرحي


مقدمه

محمود أبو العباس

يسعى المسرح منذ نشأته للمغايرة بهدف رصد معطيات الواقع الأشد تأثيراً ودرامية ومحاولة عرضها وفق أساليب تتنوع في العطاء، من أجل زعزعة الثوابت الحياتية ومن خلال أسئلة لطالما شكلت النواة الحقيقية للمسرحية كأدب يتحقق بالتجسيد الحي وبحيوية تعيد صياغة ذلك الواقع ..أو أنها كفن يشكل التأويل عمودها الفقري .. وذلك باستحداث وسائل جمالية لا تنزع صفة الاكتشاف باعتبار أن المسرح مؤسسة معرفية قوامها الاكتشاف ولذة الفكر فيه هي الأسئلة ، لذا كان ومازال الصراع في الدراما ينأى عن الانتقائية في الأحداث.. بل نجدها ـ أي الدراما ـ وبشقيها التراجيدي والكوميدي تؤسس للتلقي باعتبار إن الحدث الذي يجري هنا والآن هو محاولات لصياغة واقع جديد غير مرهون بموافقة المتلقي بل بمشاكسته ، حيث أن الاختلاف هو جزء من ديمومة المسرح ، ذلك الحلم الذي يفاجئ الجمهور بما لا يتوقع ، أو إنه السحر إذا أردت ، يحلق بالخيال بعيداً عن متناول المألوف .. بل يدعو في أحيان كثيرة لتخطي المألوف وجعله مادة مقلقة .. وهذا ديدن المسرح منذ التاريخ الإغريقي .

أن ارتباط المسرح بعلوم السايكلوجيا ومن ثم أثره السوسيولوجي مهد للكثير من الشراكة الحقيقية بين الإنسان والآخر .. ولذا اهتمت الأكاديميات الكبرى في دراسة المسرح بملازمة علم النفس ، ليس كمادة دراسية وإنما كطاقة تحليلية في الغور في تفاصيل النفس البشرية ونبش خوالجها ومن ثم استنباط الأفعال الأكثر تعقيداً لتحليلها ومعرفة خباياها لأنها جزء مهم من متطلبات التفكير الذي يستهدفه المسرح بالتغير .. وإن دراسة علم الاجتماع سهل لنا الكثير من التواصل ، باعتبار أن المسرح مؤسسة اجتماعية تشكل الفعل المسرحي ومن ثم تعيد لنا تأسيسه وفق نسق يحرر القناعات من عقال الثوابت..

لم يكن البروفسور العراقي قاسم حسين صالح مخطئ ومنذ البداية أن يشمل المسرح بدراساته النفسية التحليلية .. باعتبار إن علم النفس استفاد كثيراً من شخصيات المسرح بدأ من (عقدة أوديب) أو (عقدة ألكترا) اللتان تحدث عنهما فرويد في النظامين الأبوي والأموي ـ من الأمومة ـ واللذان غذيا نظريته في دراساته النفسية .. ولذا وجد صالح الأرض ممهدة ليشمل شخصية هملت الشكسبيرية بأسلوب تحليلي مبتكر .. بل تعدى ذلك إلى نماذج اكتظت بها النصوص المسرحية كعناصر مثيرة تشكل تفرداً غنيا بالدراما ..خصوصا تلك التي تصاب بأمراض عقلية أو أنها تشتغل على تأثيرات الفعل الجسدي بتغيراته المختلفة .. ولذا أرتبط المسرح ومنذ بداياته بالفعل النفسي باعتباره النافذة التي تطل منها الأفعال التعبيرية للشخصيات المسرحية أو حتى جماليات الصورة فيما يتناسب ومعطيات الأداء التمثيلي .

وحفظ لنا تاريخ المسرح الكثير من الشواهد الدرامية وشخصيات وضحت تلازم الدراما بالإعاقة باعتبار أن الإعاقة فعلا درامياً قوياً ، فيه الكثير من التفاصيل التي تؤجج العاطفة وهي من الطاقات الفعالة التي يعتمدها المسرح ، فنادرا ما تجد مسرحية تخلو من شخصية معاق ذهني أو كفيف .. أو أصم ، أو إعاقة جسدية أثرت على فعله العقلي ، ولا نريد أن نسرد أنواع الإعاقات بقدر ما نسلط الضوء على بعض النماذج الإنسانية التي حفلت بها النصوص المسرحية واكتظت بها خشبات المسارح ، واستغلال هذه الشخصيات من قبل المؤلف المسرحي تأتي نتاج وعيه فمنهم من ناقش المعاق بعقل مفتوح والآخر فتح باب العاطفة للمعالجة الدرامية فسقط بالميلودرامية التي لا تترك تأثيرا بمصاف التحول في التلقي عند المشاهد .. وهناك بعض المؤلفين من أستغل شخصيات معاقة من أجل استجداء الكوميديا والضحك غير المبرر... وهذا الأمر يتطلب منا التقرب من تقديم نماذج حاولت أن تؤسس لظاهرة فيها الكثير من التناقض في التناول في موضوع الإعاقة على المسرح .. والكتابات الأولى في فن المسرحية ، ونخص بالذكر المسرحية الأكثر جلالاً وعرضاً على خشبات المسرح العالمي وهي مسرحية (أوديب) الشخصية الأسطورية الملحمية والتي كتبها أولاً (سوفوكلس) وضعت الحكمة على لسان الحكيم الكفيف (ترزياس ) الذي كان يتمتع بحكمة ونبوءة .. حينما أخبر ملك طيبة بأنه سيخلف طفلا يجلب الدمار للمدينة ..