المقال

يقول غوته «يتوقف مصير كل أمة على شبابها»، ولا شك أنّ هذا الكلام صحيح، فكل أمة تستطيع أن ترى المستقبل يتشكل أمام ناظريها بتأمل شبابها والتفكر في أحوالهم وأخلاقهم وطموحاتهم. إنّ الشباب ثروة يجب ألا تهدر وألا تهمل، وأن توجّه إليها كل الطاقات والاهتمامات.
وأن تكون من أهم الأولويات في خططنا الإستراتيجية والمستقبلية. وكل مجتمع يحتاج إلى أن يولي هذه الفئة اهتماماً خاصاً مدروساً ليستطيع أن ينهض بهاوأن يوفر لها شروط الحياة الطيبة الناجحة، وأن يحميها من كثير من الآفات والمشكلاتالتي قد تكون عرضة لها في هذه المرحلة الحرجة.
وفي مجتمعنا الناهض الذي يسعىسعياً حثيثاً لتحقيق شروط الحياة الحديثة بتطوراتها المتسارعة يشعر المرء أنّ هناكالكثير من المشكلات العالقة التي لا يرى في الأفق لها حلولاً أو معالجات واعية تدركأخطارها وحساسيتها.
وتعمل بوعي وعقلانية ومرونة على أن تضع لها آليات واقتراحاتتساعد على تقليص خطرها، وإبعاد شرورها عن أبنائنا الشباب ممن قد يقعون فريسة للكثيرمن الأفكار والسلوكيات التي قد تؤثر تأثيراً سلبياً في حياتهم قد يصل أحياناً إلىدرجة التدمير والضرر الذي لا شفاء بعده.
وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً فإنفئة الشباب من الذكور تحتاج إلى الكثير من العمل والعون؛ فهناك سلوكيات سلبية أصبحتشائعة بين شبابنا إلى الدرجة التي تجعلها ظاهرة عامة تحتاج إلى تضافر الجهودوالتعاون بين جهات مختلفة في المجتمع بحيث نستطيع ـ معاً ـ أن نقلل من آثارها علىالشباب أنفسهم وعلى المجتمع عامة.
وأول هذه الظواهر عزوف الشباب الذكور عنالتعلم، وزهدهم في كل ما له صلة بمجتمع المدرسة أو الجامعة، فقليل من أبنائناالحريص على طلب العلم، الساعي له بروح التقدير والاعتزاز، بل إنهم ندرة نادرة، فهميرون التعلم عبئاً ثقيلاً تنوء كواهلهم به، ويودون لو يستطيعون أن يسقطوه عنهم بأيطريقة كانت. إنّ الحرص على تثقيف الذات، وتعلم الجديد المفيد، والجد والاجتهاد وبذلالجهد الحقيقي المخلص كلمات بلا معان عند معظم شبابنا.
وأسباب هذا الأمر كثيرة،أهمها أنّ تربية الذكور في كثير من أسرنا تقوم على التدليل المفرط، وعلى إعطاءالولد ـ منذ الصغر ـ حقوقاً تفوق عمره، بحيث ينشأ وهو يرى نفسه معفى من كثير منالواجبات والمسؤوليات، مما يعزز في نفسه فكرة تحرره من كل عبء يتطلب جهداً وعملاً،وهذا أمر يستمر معه حتى بعد أن يكوّن أسرة يكون هو ربّها، فكثير من الأسر الشابة فيمجتمعنا تعتمد اعتماداً شبه كلي على الأم في تيسير شؤون حياتها المختلفة.
أماالأب فإنه يعفي نفسه من معظم واجباته، ويكون حضوره في الأسرة باهتاً ضئيلاً. بل إنّبعض الأسر تشتكي من غياب الأب الدائم، وعدم اهتمامه بشؤون أبنائه واحتياجاتهمومشكلاتهم. ولا شك أنّ هناك أسباباً أخرى كثيرة وراء هذه الظاهرة لا يسعها هذاالمقال منها المجتمع المدرسي وما ينضوي تحته من بيئة وطرق وأساليب وغيرها.
ولكنّ الظاهرة في حدّ ذاتها تشكّل منعطفاً مهماً في حياة أبنائنا وتحتاج أننوليها اهتماماً، وأن نعيد النظر في مسألة تربية أبنائنا الذكور التي تفتقد إلىالحزم والحوار وبناء علاقة متينة من الصداقة بين الآباء والأبناء والاحترامالمتبادل بين أفراد الأسرة الواحدة.
ولعل ظاهرة عصابات الشباب الآخذة فيالانتشار في مجتمعنا تعد من الظواهر التي لم نعرفها من قبل؛ فقد كان مجتمعنا مثالاًللبيئة الآمنة المستقرة. أما اليوم فإننا نقرأ في الصحف عن جرائم الشباب وعصاباتهم،وما أصبحوا منجرفين وراءه من سلوكيات عنيفة بعيدة كل البعد عن قيم ديننا الحنيف وماتعارف عليه أهل هذا البلد الطيب.
إن هذه العصابات من الشباب لم تنشأ من فراغ،ولم تتقو ويشتد عودها إلا لأسباب كثيرة معقدة نحتاج أن نكشفها وأن يدور في شأنهاحوار عميق طويل يدرسها ويحلل ما يثوي وراءها من دواع وتداعيات كثيرة.
لا شك أنّالأسرة تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الأمر، ولكنّ المجتمع لا يعفى منمسؤوليته أيضاً؛ فكثير من الأسر تفتقر إلى عناصر التواصل الصحيح، وكثير منها يعتمدالعنف والإكراه والتقليل من شأن الشاب أسلوباً في تربيته، وبعض الشباب يعاني منالإهمال التام الذي يولّد لديه الحاجة إلى الانتماء إلى جماعة ما، أياً كانت هذهالجماعة، لتجبر كسره، وتكون له ملاذاً وملتجأً.
يحتاج أمثال هؤلاء الشباب إلىمن يحاورهم ويسمع منهم وينصحهم، ويتفهم ميولهم نحو العنف، فيحاول أن يصححها ويوجههاالتوجيه الصحيح السليم. هؤلاء الشباب في حاجة إلى ملتقيات للحوارات المفتوحة الحرةالتي لا تصادر على آرائهم ولا تنتقص وجهات نظرهم، وتحترم رؤاهم، حتى إن كانت تخالفما تعارف عليه الكبار.
إنّ الاستماع إليهم في جو يشعرون فيه بالاحترام قد يضمدفي نفوسهم جراحاً عميقة، وقد ينجح في أن ينتشل بعضهم من ظلمات بلا قرار قد يغرقفيها إلى الأبد. وهذه الملتقيات قد تكون من مسؤولية المدارس والأندية الثقافية التيتستطيع - إن نجحت في جذب الشباب لمثل هذه الملتقيات ـ أن تكون معبراً لهم إلى أفقجديد آمن يبعدهم عن مزالق الشيطان، ودروب الفشل والسقوط.
ولا شك أنّ شبابنايعاني الكثير من المشكلات الخطيرة الأخرى من مثل تعاطي المخدرات، والسلبية فيالتعامل مع مشكلات الحياة، واللا مبالاة بالشؤون العامة، وعدم الجدية، وإهدارالوقت، وغيرها كثير من الظواهر والسلوكيات التي لا يكفي فقط أن نناقشها في ندوة أومؤتمرـ أو أن نكتب عنها مقالاً أو مقالات. إنها قضايا جوهرية تمس مستقبل المجتمعبعمق، وتحتاج إلى تحليل عميق ودراسة مخلصة وجهود حثيثة يتضافر فيها الجميع بصدقوعزم لنتمكن من احتوائها والسيطرة عليها حتى يبقى بلدنا ـ كما عهدناه ـ طيباً لاينبت إلا الطيب الكريم.