إحسان عباس.. ذكريات أولى ورحلة لاحقة في أسفاره
العسكر: «غربة الراعي» هي بكلمة واحدة زبد الزبد في تجربة الحياة
الرياض: محمد السيف
عاد الدكتور عبد الله العسكر، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الملك سعود، بذاكرته إلى سنوات دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما تعرف على الراحل الدكتور إحسان عباس، لأول مرة، وقال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «عرفتُ الدكتور إحسان عباس لأول مرة عندما كنتُ أطلب العلم في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد لفتتْ أستاذتي الدكتورة وداد القاضي انتباهي إليه، وإلى بعض مؤلفاته الجياد. كان الدكتور إحسان آنذاك منكباً على تحقيق النصوص التراثية الصعبة، وقد استقبل الأكاديميون والمثقفون والأدباء عمله باستحسانٍ كبير. ثم بعد عودتي إلى الرياض تشرفتُ بلقياه والجلوس إليه، وكان الحضور معنا من أساتذة كلية الآداب، وكان الدكتور إحسان يُفكر في إكمال تحقيق كتاب «أنساب الأشراف» بالتعاون مع الدكتورة وداد القاضي، ودار نقاش طويل حول مخطوطات الكتاب، وأذكر عندها كيف لامنا الدكتور إحسان، عن كوننا لا نتجشم المصاعب العلمية، ونرضى بالسهل من دون الصعب، وقد قال ان أسفار التراث العربي ذات الصلة بالجزيرة العربية تعدُ تراثاً ضخماً، وهو تراث في معظمه غير محقق، وليس أولى من السعوديين بتناوله. ثم إزدادت صلتي به، وكان يهديني بعض انتاجه، الذي أجدُ فيه درساً غنياً، ومن كتبه التي لقيتها وطلابي ذات فائدة ومنفعة كتاب: الخراج لأبي يوسف، فقد أخرجه المرحوم وخدمه وتوسع في هوامشه مما جعله مرجعاً لا يستغني عنه طالب علم. أما تحقيقاته للتراث الأندلسي فحدث عنها كما شئت، فقد أبلى الرجلُ فيها بلاءً حسناً، ونشر أمهاتها من كتب الأدب والدين والتاريخ نشراً علمياً متقنا»ً.

ويضيف العسكر، قائلاً: «أنا أعد الدكتور إحسان من بقية السلف، بقية العمالقة، وهو بلا ريب أحد المثقفين الكبار، الذين يجمعون ثقافة واسعة وموسوعية، ولا يكتفون بالوقوف عند التخصص الدقيق، فهو حقق، وألف، وترجم في التاريخ والسيرة، والطبقات والأعلام والسياسة والعمران والشعر والقصة والرواية والنقد».
ويمضي العسكر قائلا: «يتميز الدكتور إحسان بكونه رائداً في البحث والتدريس، فهو إلى جانب كونه أستاذاً أكاديمياً له طلابه ومريدوه، اقتحم ميدان الثقافة العربية من أوسع أبوابها، وخرج إلى الناس كل الناس بآرائه السديدة، ولعل من أهم آرائه نظرته إلى التراث العربي، فهو يعدهُ تراثاُ إنسانياً لا تراثاُ قومياً أو جهوياً، وزاوج بين التراث والحداثة مزاوجةً لم أرَ مثلها، مزاوجة مبدعة، وهو ليبرالي الفكر، منحاز للعلم أيما انحياز، ثم هو فوق هذا كله يتصف بكونه إنساني النزعة».
ويضيف: «عرفت الدكتور إحسان كما عرفه غيري، في حبه الشديد للتواضع الجم، وعدم احتفائه بالظهور والمباهاة، زاهداً في المناصب والحفلات والمناسبات، منكباً على عمله، مخلصاً له، فاتحاً قلبه وبابه لطلابه من مختلف بقاع الأرض، لا يمنُ عليهم، ويلقاهم مبتسماً، وينفحهم عصارة فكره، وحصيلة عمره، ومكتبته المنزلية معروضة لهم». وعن سيرته الذاتية «غربة الراعي» وما اكتشفه فيها قال العسكر: «عندما قرأت سيرته الذاتية، التي سجلها في آخر حياته، لمستُ مدى العجز الذي يعتصر قلبه وفؤاده وجسمه، فمسيرته التي عنونها بـ«غربة الراعي» ليست كالسير المعتادة، إنها مقدمة لنقد الذات، لا لتمجيدها كما اعتدنا في السير، أو في نقد الآخر على حساب الرفع من الذات. إن سيرته هذه تغطي حقبة زمنية أكبر من الحقبة التي عاشها، وهي ثلا ث وثمانون سنة، إنها سجل حافل، وشاهد عصر على أهم القضايا الفكرية والثقافية والسياسية التي عرفها العرب في تاريخهم المعاصر».
ويضيف: «كتاب «غربة الراعي» ليست كالسير المعروفة، فهي لا تحفل بتسجيل الحوادث التي مرّ بها صاحبها، ولا تهتم بتدوين اليوميات، إنها وبكلمة واحدة: زبدُ الزبد في تجربة الحياة، وأنا أدعو كل مثقف لقراءة «غربة الراعي» فهي سيرة روحية قلما نجدُ مثلها».
ويختتم العسكر قائلا: «تقول العرب في أمثالها: فرّ من الشرف، يتبعك الشرف، وهذا القول تجسّد في إحسان، لقد فرَّ من كل ما يمتُ للشرف بصلة، لكن الشرف توّجه حياً وميتاً، إنني أفتقدُ الدكتور إحسان وأتذكره كلما وقعت عيناي على كتابٍ من كتبه».




من http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&article=187465&issueno=9027