الحديد يزداد صلابة بالطرق .. ؟؟
لعلك – أيها القارئ الكريم – تذكر معي قصة \" الحمامة المطوقة\"
التي حطت وصويحبات لها يلتقطن الحب من الأرض , وقد نصب لهن الصياد الشبكة فوقعن فيها ,
واستسلمن لقدرهن المجهول وأيقن أنهن هالكات لا محالة ,
ولكن \"الحمامة المطوقة \" قالت لهن : إن من الخطأ أن يستسلم المرء لدواعي الفشل ,
فبدل أن نظل نعلن الظلام , هيا لنقوم ونشغل شمعة , فلماذا لا نتعاون جميعاً ونطير بالشبكة ,
ولا يكن نفس إحداكن أهم عندها من الأخرى ! فقلن لها: والي أين نطير بالشبكة ؟
قالت: إن لي فأراً صديقاً لي بمكان كذا, نذهب إليه ليساعدنا في التخلص من الأسر.
وبالفعل طرن بالشبكة, وذهبن إلي الفأر صديق المطوقة فلما رآهن الفأر
قال للمطوقة: إنك أعقل من أن تقعين في هذا الخطأ , فالعاقل لا يقع في الأسر
وإن وضعت له شباك من حريراً فقالت له : ألا تعلم – يا صديقي – أن الخير والشر مقدران علي الإنسان
وأن المرء في حياته , يمر بمحن وشدائد , كما يمر بسعادات ومسرات فقال لها : صدقت , ثم بدأ في قرض الشبكة من ناحيتها ,
فقالت له : لا, بل فابدأ بصويحباتي , فقال لها : وهذا مما زادني رغبة في صداقتك
وبالفعل تخلصن جميعاً من الأسر.
هذه القصة علي رغم بساطتها , إلا أن عمقها يعطي الإنسان دروساً كثيرة من أهمها : أن الإنسان لا بد له من أن يمر بتجارب قاسية في حياته ,
ولكن العاقل هو الذي يتعلم من تلك التجارب , فيقوي عوده , ويصبح أكثر تحملاً وجلداً , قال الشاعر:
ألم تر أن القرط ليس بحلية ***علي الأذن حتى تألم الأذن بالثقب
ولقد شاهدت الحداد وهو يحمي النار علي حديده , ويطرق عليه طرقاً عنيفاً ,
فعرفت أن الحديد لا يزداد صلابة إلا بهذا الطرق , وكذلك الإنسان العاقل المؤمن ,
كلما مر بشدة خرج منه أصلب عوداً وأقوي نفساً ولنا في أنبياء الله – تعالي –
والصالحين من عباده , أسوة وقدرة حسنة , فلم تقو عزائمهم إلا بما لاقوه من أذي ,
وما واجهوه من مصاعب ومتاعب , وإن من يطلب العلا دونما سبب ولا تعب ,
لم يرجع بغير الحسرة والندم
قال الشاعر المتنبي :
ذريتي أنك مالا ينال من العلا *** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
ترين إدراك المعالي رخيصة *** ولا بد دون الشهد من إبر النحل
والإنسان الذي يظن الحياة – كلها – سعادات عند أول مشكلة تواجهه يسقط , و لا يستطيع أن يتحمل .
قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : \" يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) سورة يوسف .
ومن الدروس التي تعلمنا إياها تلك القصة عدم الأنانية وحب الذات فالأناني يضر نفسه قبل أن يضر غيره
ولذا فأن الله تعالي مدح المؤمنين بصفات كثيرة منها أنهم \
" صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) سورة الحشر .
فالمؤمن رجل معطاء لا يبخل بما عنده, بل يجود لإخوانه بالنفس والنفيس,
مدح الشاعر أبو تمام المعتصم فقال:
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله
تعود بسط الكف حتى لو أنه *** ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه*** لجاد بها فليتق الله سائله
فلنتعود علي مواجهة مصاعب الحياة بنفس قوية, وقلب شجاع ولا نستسلم لليأس,
فاليأس يميت صاحبه, حتى لو ظل جسره موجوداً بين الأحياء .
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء
فكن كأطيب الثمر الذي يرمي بالحجر , و كن كالحديد الذي يزداد صلابة بالطرق .
م.ن