تقرير عن البحتري


هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الله الطائي ، أشعر الشعراء بعد أبو نواس ولد في قرية منبج في قبائل طيء قرب حلب ونشأ بينهم فغلبت عليه فصاحة العرب ، ولازم وهو فتى أبو تمام وعليه تخرج ثم خرج إلى العراق وأقام في خدمة المتوكل والفتح ابن خاقان محترماً عندهما إلى إن حدثت الفتنة التي قتل فيها المتوكل ووزيره الفتح وذلك عام 247 هـ كره البقاء فعاد إلى وطنه حيث قبائل طيء ثم عاد مرة أخرى إلى العراق وإلى سالف عهده من مدح الخلفاء والأمراء هناك - ولا سيما المعتز- وبقى إلى آخر حكم المعتمد ثم رجع إلى سوريا وإلى أعراب طيء واستقر في منبج حيث أدركته الوفاة وهو يناهز الثمانين عام 248 هـ .

وكان على فضله وفصاحته بخيلاً وأقذرهم ثوباً ، وأكثرهم فخراً بشعره حتى كان يقول لنفسه إذا أعجبه شعرهُ ( أحسنت والله ) ويقول للمستمعين مالكم لا تقولون أحسنت؟ والكثير علماً أنه لم يأتِ بعد أبو نواس من هو أشعر منه .

اتصل البحتري بسبعة من كبار الخلفاء العباسيين وبعدد أوفر من رؤساء القوم فبلغ منزلة عالية ولم يكن مسرفاً فجمع مالاً وفيراً ، وفي شعره ما يشير إلى أنه كان ذا عقار واسع ، كقوله لأحد الرؤساء في أمر ضيعة له ويعتقد أن بعضهم اعتدى عليها واغتصب غلتها فقال مستجيراً به :

وقد غدت ضيعتي منوّطة *** بحيث نيطت للناظر الزهره
اروم بالشعر ان تعود فما *** اقـطـع فيــما ارومـه شـعــره
وفي بعض قصائده للمعتز يستأذنه في الذهاب إلى الشام لنظر في أملاكه مثل قوله :
هل اطلعنّ على الـشام مبجــلاّ *** في عـز دولـتك الجـديد الموفق
فارمّ خلة ضيعة تصف اسمـها *** والـمّ ثــمّ بـصـبــيـة لـي دردق
شهران أن يسرت إذني فيهـما *** كـفـلا بـإلـفة شـمـلـي المـتفـرّق

شعره بديع المعنى أجمع نقدة الشعر القدماء على وصف البحتري بسلاسة العبارة حسن الديباجة ، صقيل الفظ سلس الأسلوب كأنه سيل ينحدر إلى الأسماع ولذلك أعتبره كثير من أهل الأدب هو الشاعر الحقيقي واعتبروا أمثال أبو تمام والمتنبي والمعّري حكماء .

قال الثعالبي يصف شعر البحتري (( أن كلامه يجمع الجزالة ، والحلاوة ، والفصاحة والسلاسة )) .

ووصفه أبن الأثير : (( فإن مكانه من الشعراء لا يجهل ، وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريباً ضوءها بعيداً مكانها )) .
ويصف ألفاظه في موضع آخر فيقول ( وترى ألفاظ البحتري ، كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات ، وقد تحليّن بأصناف الحّلي )) .
نشأ البحتري في بيئة طبيعية تغذي موهبته الشعرية ، وكان الشاعر أبو تمام يملأ الدنيا من حوله بشعره الذي تميز بالجدة والخيال الجامح وتوليد الصور الفنية.
وكان الشعراء في ذلك العصر قد وجدوا في المديح سبيلاً إلى الرزق والثراء وما أن أحسّ البحتري بقدرته الشعرية حتى رحل إلى الشاعر أبى تمام الذي كان يزور حمص بعد أن تجول في الممالك الإسلامية شرقا وغرباً طلباً للعطاء ، وكان الشعراء يقصدون أبا تمام طلباً لاعترافه بهم ونصحه لهم كما كان خبيراً بالصنعة الفنية فلما وفد عليه البحتري مع جمع من الشعراء قال أبو تمام للبحتري: أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك ، ويبدو أن إعجابه به قد دفعه إلى الاطمئنان على أمور معاشه فشكا البحتري بؤسه وفقره فوجهه أبو تمام برسالة توصية إلى أهل معرة النعمان مؤكداً على شاعريته الجيدة وكأنه يدفع به إلى مسيرته الطويلة في عالم المديح وجمع المال الذي أثبت البحتري أنه ظل خبيراً به طوال حياته ، لقد خلف البحتري ديوانا كبيراً من الشعر يقع في خمسة أجزاء تنوعت فنونه الشعرية بين المدح والغزل والوصف والرثاء والحكمة أما الهجاء فقد كان فيه مقلاً وقد نصح ابنه أن يحذف فيه ما قال من هجاء وما أن نضجت موهبة البحتري في الشام وذاع صيته حتى شد الرحال إلى حاضرة الخلافة في بغداد تقربا إلى الأمراء ثم إلى الخلفاء.
حفظ البحتري لأبي تمام حق الأستاذية ونصيحة الأيام الأولى وهو يخطو على درب الشعر أولى خطواته فلما قال بعضهم للبحتري إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام فقال و الله ما ينفعني هذا القول و لا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به و لوددت أن الأمر كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لا يؤذيه نسيمي يركد عن هوائه أرضي تنخفض عند سمائه ، كانت فنونه الشعرية متأثرة بهذه الكلمات الأولى لأبي تمام فجاء شعر البحتري سهلاً رشيق العبارة واضح الصورة قوي النسيج فصيحاً مطرباً عذباً فكان فريداً بين شعراء عصره.
من أشعاره:
قصيدته في علوة الحلبية:
خيال يعتريني في المنام ...... لسكرَى اللحظِ فاتنةِ القوامِ
لعلوةَ إنها شجن لنفسي ...... وبالبال لقلبي المستهام
سلام الله كلَّ صباح يومٍ ...... عليك ومن يبلّغ لي سلامي
لقد غادرت في قلبي سقاماً ...... بما في مقلتيك من السهامِ
أأتخذ العراقَ هوىً وداراً ..... ومن أهواه في أرضِ الشآم

و من قصيدة ( أغيب عنكَ ) كانت هذه الأبيات:
أغيبُ عنكَ بودٍّ لا يغيّرهُ ...... نأي المحل و لا صرفٌ من الزمن
فإن أعِش فلعل الدهر يجمعنا ...... و إن أمت فبطول الشوق و الحَزَنِ
تعتلُّ بالشغل عنّا ما تُلمُّ بنا ...... الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
قد حسِّن الله في عينيَّ ما صنعَت ...... حتى أرى حسناً ما ليس بالحسنِ



http://www.bh30.com/vb3/showthread.php?t=63073