على مدى ثلاثة عقود متتالية، والتقارير والإحصائياتتؤكد عاماً بعد عام أن أعداد العمالة الوافدة، خصوصاً غير الماهرة منها، في تزايدمطّرد في دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك يحدث في الوقت الذي تتزايد فيه أعدادالمواطنين الباحثين عن فرص عمل في أوطانهم. فتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكذلك الإحصائيات المحلية، يؤكدانتفاقم هذه الظاهرة، فنسبة العمال الوافدين إلى إجمالي القوى العاملة وصلت إلى نحوسبعين في المائة في المملكة العربية السعودية، أي ما يعادل ثمانية ملايين وثمانمائةألف عامل، وخمسة وثمانين في المائة في دولة قطر، ونحو ستين في المائة في سلطنةعمان، وستين في المائة في مملكة البحرين، ونحو تسعين في المائة في دولة الإماراتالعربية المتحدة، وثمانين في المائة في دولة الكويت.

لقد نُشر العديد من الدراسات والتقارير حول الانعكاساتالسلبية للخلل في التركيبة السكانية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسيةوالأمنية في دول المجلس، كما أُطلق العديد من المبادرات على المستويات كافة لوضعحدّ لهذه المشكلة، ولكن النتائج التي تمخضت عنها هذه الجهود لا تزال دون التوقعات
وفي هذا السياق، فإن هناك دراسةصدرت عن مؤسسة راند للأبحاث بشأن العوامل والتوجهات السكانية وانعكاساتها على الأمنالوطني، وهي تلقي الضوء على مدى خطورة الدور الذي يمكن أن تلعبه الجاليات الأجنبيةفي طبيعة الصراعات المستقبلية، وذلك من خلال استخدامها كإحدى الأدوات في صراعات قدلا تكون الدولة المضيفة طرفاً فيها، ولكن قد تجد نفسها متورطة بسبب توجهات تتبناهامجموعات مقيمة على أراضيها
وتنطلق الدراسة بالتأكيد على أن التكتلات السكانية الوافدة في بلدانأخرى ليست بالأمر الجديد، وأنها وُجدت منذ فجر التاريخ، إلا أنها لم تُعتبر من قبلالدول المضيفة على أنها مصدر تهديد للأمن القومي إلا في حالات نادرة. ولكن التقدمالذي شهدته وسائل المواصلات والاتصالات خلال العقود الثلاثة الماضية سهّل عمليةالانتقال والتواصل بين مختلف دول العالم، وجعل هذه الجماعات أكثر التصاقاً بدولهاالأصلية وأكثر اهتماماً بمصالحها الوطنية. فإذا تمكنت هذه الجماعات الوافدة منتنظيم صفوفها وتعبئة قدراتها فإنها قد تصبح مصدر قلق للدول المضيفة، وخصوصاً إذاتبنت هذه الجماعات مواقف تتعارض والسياسات الداخلية أو الخارجية لهذه الدول. لقدتحولت الجاليات الأرمنية في فرنسا والولايات المتحدة، والصينية في جنوب شرق آسيا،والهندية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وفيجي وشرق إفريقيا وغيرها منالجاليات التي لا يتسع المجال لذكرها، إلى قوى ضغط قادرة إلى حد ما على التأثير فيالقرار السياسي ولو بدرجات متفاوتة في الدول المضيفة.
أضف إلى ذلك أن هذه الجماعات يمكن أن تلجأ إلى جمعالتبرعات وإقامة الحملات لتقديم الدعم المادي والمعنوي لمؤيديها أو تشويه صورةمعارضيها في داخل الدول المضيفة أو خارجها، أو حتى ممارسة الضغوط على هذه الدوللاتخاذ مواقف قد تتعارض ومصالحها الوطنية. والأمثلة أكثر من أن تُعد أو تحصى بهذاالخصوص، ولكن الدراسة تذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الدور الذي لعبتهالجماعات الكرواتية في العديد من دول العالم لحشد التأييد الدولي ضد الصرب، والجهودالتي بذلتها الجماعات الأرمنية لمنع الولايات المتحدة من التقارب مع أذربيجان، كماأن جماعات التاميل كثيراً ما جمعت التبرعات، وحشدت التأييد للمتمردين ضد القواتالحكومية في سريلانكا.



إن ذكرهذه الحقائق التي أوردتها الدراسة المشار إليها يجب ألا يُفهم منه أنه تحريض ضدأحد، ولكن فقط للتأكيد على مدى خطورة التهديد الذي يمكن أن يحدثه الخلل السكاني.
فإذا كانت دول كالولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية مثل فرنساوألمانيا قد أنشأت مراكز أبحاث ودوائر رسمية وأجهزة خاصة لإبقاء هذه الأقلياتملتزمة بالقوانين المطبقة في هذه الدول، ومنعها من التحول إلى مصدر تهديد للأمنوالاستقرار الداخلي، فما الذي يمنع دول مجلس التعاون من الأخذ في الاعتبار ولو مجرداحتمال أن تسيء بعض الجماعات الوافدة كرم الضيافة، وترتكب ممارسات قد تهدد أمنواستقرار هذه الدول، وخصوصاً أن بعض شعوب المنطقة أصبحت أقليات في أوطانها بكل مايحمله هذا الأمر من دلالات راهنة ومستقبلية!

وإذا كان المرء يأمل ألا تقع مثل هذه الأحداث المؤسفة التي تهدد الأمنوالاستقرار، ومع التسليم في الوقت نفسه بأهمية الدور الذي لعبته الجاليات الوافدةفي إعمار وتنمية الدول المضيفة، إلا أنه لا يمكن إسقاط الاحتمالات آنفة الذكر منالحسبان.

ومع تزايد ضغوط المنظماتالعالمية مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة العمل الدولية بشأن ملفات الوافدينوالمهاجرين، فإنه لا بد للجهات الرسمية المعنية في دول المجلس، والمكلّفة بوضعالحلول العملية لهذه المشكلة وما تفرضه من تحديات من مواصلة جهودها وتسريع وتيرةتنفيذ الخطط والبرامج العملية لإيجاد فرص عمل ووظائف للمواطنين على أساس جدول زمنيواضح ومحدد، وبالرغم مما قد يترتب على ذلك من خسائر مادية في المدى القصير، إلاأنها لن تكون حتماً أفدح من تهديد استمرار الأوضاع السكانية الراهنة بكل ما تحملهمن آثار وتداعيات محتملة.