لا سائل ولا محروم في زمن النصب وفنون الشحاتة


أقبل علي شاب هيئته مواطن مرحبا مهللا وسلم علي سلاماً حاراً وبالخشم، لابد أنه يعرفني، ربما يكون صديقا أو زميلا قديما غاب عن ذاكرتي المنهكة المليئة بالخزعبلات والملفات القديمة التي لم يعد لها حاجة، وجاريته متوهما أنني لابد أن أكون مشهورا والناس تعرفني لأنني كاتب وصحفي، لابد أن هذا الشاب احد قرائي ويعرفني..

أشعرتني القصة بأنني رجل مهم وبأنني شخصية مرموقة، كنجوم السينما الأميركية الذين يتسابق الناس على الحصول على توقيعاتهم والتصوير معهم..

وشكا لي الشاب همومه ومشاكله المالية وديونه المترتبة عليه بسبب مرض والده الذي أنهك ميزانيته بعد أن لم يترك به لا مستشفى ولا مكانا بحثا عن علاج ناجع، يالله يا له من ولد بار بأبيه، يفعل كل ذلك من أجل أبيه، قلما نجد شابا كهذا في هذا الزمان، وها هو المسكين مهدد بدخول السجن لعجزه عن سداد الديون..


طبعا فارت دماء الشهامة والكرم العربي في عروقي وتعاطفت مع الشاب ومع قصته وتبنيتها من أجل الحصول له على دعم مالي ينقذه وينقذ والده المريض، وطلبت منه أن يزورني في المكتب حتى نبحث في حالته الإنسانية، وندبر له حلولا جوهرية، وهممت بمهاتفة الأصدقاء من المحسنين والجمعيات الخيرية.. غير أن الشاب طلب مني ببساطة أي حسنة فهو يكتفي بذلك ولا حاجة لكل ما تقدمت به من نوايا لمساعدته، واكتشفت أنه لا يعرفني ولا يحزنون ولم يقرأ في حياته جريدة الاتحاد أصلا، وانه مجرد «طلاب» أو شحات يريد حسنة..

ورأيت قصة أخرى من هذا النوع، فقد كنت أقف خارج المنزل قبل ساعة الإفطار أتأمل أو انتظر غروب الشمس بانتظار الأذان، عندما توقفت سيارة رباعية الدفع جديدة الموديل أحسن وأفضل من سيارتي «الكحيانة» بكثير، ونزلت منها سيدتان متنقبتان بدأتا في طرق منازل الجيران، ووضعت في بالي أنهما توزعان زكاة مال أو صدقات وانتظرت دوري فلن يضيرني أن احصل على الزكاة على اعتبار أنني من الفئات المستحقة كوني من فئة الغارمين، الذين يعجزون عن سداد الديون لكثرتها، فيكفي فقط أن أتذكر ديون المخالفات المرورية التي لا أزال عاجزا عن سدادها حتى بعد التخفيض المروري الكريم..

المهم أنني انتظرت مترقبا إلى أن وصلت إحداهن إلي فاستنجدتني، ونظرت إليها ببلاهة وخيبة أمل قبل أن أمد يدي إليها بما قسم الله..

ومرة ضحكت كثيرا بعد أن أوقفني رجل يبدو محترم الهيئة والشكل، ويرتدي ملابس محترمة ونظيفة لكن الزمان جار عليه، وخسر كل ماله في سوق الأسهم وضاعت أملاكه في الأزمة العقارية، وتشرد عياله وضاعوا وهو هارب من أمامهم لأنه لا يستطيع إطعامهم، وناولته متحفظا بما قسم الله، وأكملت طريقي متوجها إلى المكان الذي أوقفت فيه سيارتي لأفاجأ بالحبيب يفتح سيارته البيضاء الفاخرة المتوقفة قريبا من سيارتي، وبطبيعة الحال تجاهلني واختفى وراء زجاج سيارته المظلل، أما سبب ضحكي فلأنني تذكرت فيلم عادل إمام عندما كان شحاتا شعاره ارحموا عزيز قوم ذل.. في هذه الأيام المباركة يزيد عدد الشحاتين وكان الله في عون المحتاج منهم، وأعاننا على النصاب منهم..

فبالرغم من كل شيء فالآية الكريمة تقول: «فأما السائل فلا تنهر»..

إن ذلك يجعلك غير قادر على التفريق بين السائل المحروم والنصاب الكذاب، وحتى لو كنت قادرا أو لديك شك في الأمر، فلا تريد أن تحمل نفسك وزر الشك في ذمم الآخرين وتترك جزاءهم على الله، ثم إنك لا تريد أن تخدش صيامك بالمشاحنات والقيل والقال، فلا تنهر ولا «تشخط» وأنت في شهر العطاء والصيام، فتلتزم بالآية الكريمة، وقد تعتذر بأدب واحترام وبالدعاء له ليعطيه الله، أو تعطيه مما أعطاك الله..

وكان الله في عون الشرطة التي تسعى لحماية المجتمع من النصابين والحرامية ومن الشحاتين الذين يستغلون الناس وشهر الكرم والعطاء ويستجدون الناس عطفهم وشفقتهم وحسنتهم، لكن الشرطة بالمرصاد لتكشف أساليبهم حتى ولو كانت مبتكرة.


.