القطار
كنت أجلس بجوار النافذة دائما ، وأشاهد أروع المشاهد إبداعا ،بعد أن يباعد القطار بيني وبين دياري في انسلاخ لا إرادي وكأن روحي تخرج من جسدي ، بعد أن خرجت من بيتي وشارعي والحي ثم المدينة كلها ، حيث تدور الأرض كلها مع القطار ، وحركة الفلاحين وهم يذهبون إلى حقولهم وسط حيواناتهم ، ومنظر الزرع الأخضر المتنوع باختلاف نوع الزرع ،والطيور والعصافير والحمام ، والأطفال الصغار دون سن المدرسة مع أهليهم في تشكيلة فنية تجمع الإنسان مع الحيوان في ألفة عجيبة !
كان عهدي بركوب القطار مبكرا جدا لعدة سنوات بسبب الدراسة حيث أخرج من بيتي بعد صلاة الفجر ، وأحيانا مع الفجر في أيام الشتاء حاملا حقيبتي ، ومن خلفي دعوات أمي الحبيبة التي كانت تستيقظ قبلي لتعد لي الطعام ولا تدخل البيت حتى أغيب عن ناظريها
( الأم وما أدراك ما الأم !، وخاصة أمي الحبيبة ، وإذا كنت أحترم النساء وأقدرهن وأقف في صفهن وأنتصف لقضياهن فذلك بسبب حبي لأمي ، وكذلك حبي لابنتي وزوجتي لأنها أكيد ستقرأ هذه الكليمات ) ، وأنطلق في الطريق مع بعض زملائي ، وكنت نحيفا وقصيرا ، أقصر زملائي ، ولكن منّ الله علي بالطول حتى أصبحت أطولهم ، وبعد أن كان بعضهم يسير بجواري ليفخر بطوله ، أصبح يهرب مني خجلا من طولي
( كل يوم هو في شأن )
، ويترك القطار الحقول ليدخل وسط المدن مع شعاع الشمس الأصفر ، ومنظر الركاب وهم علي جانبي الرصيف الكل متأهب لصعود القطار والجلوس مثلي ، بجوار النافذة ، وتطول الرحلة اليومية قرابة الساعة ، وداخل القطار لوحات بشرية مختلفة تماما عن الخارج ، حيث تشاهد أصنافا شتى من البشر ، المهموم والسعيد والعامل والطالب والتاجر والموظف والكبير والصغير والعجوز والشاب ، وهنا يدور الكلام حول كرة القدم ، ومجموعة تتكلم عن مشاهدة فيلم ، وأخرى تتكلم عن الأسعار ، وشخص يقرأ القرآن ، وبجواره من يتصفح الجريدة ، والثالث يغط في النوم غطا مع إصدار أنغام غير موسيقية ، وامرأة تندب حظها بسبب أم زوجها ، وبائع متجول يقطع بصوته الجهوري حبل تفكير الطلاب في المستقبل المجهول ، وفجأة يقف القطار في المحطة التالية ، فتتغير المشاهد كلها ، بصعود وهبوط الركاب ، وتتغير الأماكن والصور والأفكار والأهواء ، وأحيانا تحدث مشاجرات ، وأحيانا يتعطل القطار ، وأحيانا يتأخر ، وفي النهاية يصل إلى محطة الوصول ، كل ذلك وأنا بجوار النافذة أدون في مذكرتي الصغيرة بعضا مما سبق ، ثم أودع القطار ليكمل رحلته ، ويعود في الثانية ظهرا ، لتسجيل رحلة العودة المختلفة تماما مضافا إليها ما حدث على مقاعد الدراسة وما أجملها وأندرها وأجذبها وأثقلها حيث أسترجعها كلها مع زملائي بالتفصيل رغما عن السادة ركاب القطار الذين يملون أحاديثنا عن الرياضيات واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والحديث يطول .....ما أجملها من رحلة !
كم أفتقد ركوب القطار واسترجاع كل ماسبق !
ليت تلك الأيام تعود وأعود معها كما كنت الولد الصغير البسيط النقي السر والسريرة .
بقلم
سيد مصطفى
24-9-2010م