المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [تقرير جاهز] مظاهر التقدم العلمي والتقني



werd
09-05-2012, 03:49 PM
التطور العلمي والتطور التقني


إن التطور العلمي نفسه ليس دائماً كامل الاستقلال لقد استطاعت التقنيات ان تساعد بطرحها مسائل محددة في إحداث تطورات علمية معينة، وقد لا يكون من المستحيل الاعتقاد بأن بعض أشكال الرياضيات أو الفيزياء الحديثة كانت نتيجة اهتمامات تقنية، والهندسة نفسها كانت تقنية مسّاح الأراضي قبل أن تصبح (علماً بحتاً)، كذلك الأمر بالنسبة لكل الجهاز العلمي الذي يتعلق هو نفسه وبدرجة كبيرة بالتطور التقني.

وهذا يقودنا الى استنتاج مهم لطالما قدم مخترعو الزمن الماضي كأشخاص دون معلومات علمية واسعة موهوبين فقط بعبقرية خاصة. والعكس وارد في أن يصل التطور العلمي الى نقطة تجعل اختراعاً معيناً ممكن التحقيق ولكنه مع ذلك لا يصل إلا متأخراً مثالاً على ذلك عدم قدرة الاغريق على تطوير تكنولوجيتهم رغم حصولهم على عناصر علمية كافية. ألم يقال عنهم أنهم مرّوا بجانب ماكنة البخار ولكنهم لم يصنعوها. لقد مر مائة عام وعامين بين اكتشاف الظاهرة الفيزيائية المطبقة في التصوير الفوتوغرافي وبين التصوير الفوتوغرافي نفسه (1727 – 1829) ولكن ألم يكن الى جانب الاكتشاف العلمي مسألة الركيزة والمستحضرات.

إن الرابطة بين العلم والتقنية تتوطد عندما يسمح العلم بحل المسائل التي تطرحها التقنية ومن جهة أخرى عندما يكون بمقدور التقنية أن تلبي متطلبات العلم، وهكذا نشأت فكرة تمييز البحوث التطبيقية. بافتراض ان الحالة المثلى للتطور التكنولوجي هي عندما يكون التطور في معرفة العلّة بمقاييسه ومدلولاته (نظريات، مفاهيم، معارف، معلومات) مصحوباً بتطور في معرفة الأداء وأيضاً بمقاييسه ومدلولاته (سلعة جديدة، تحديث طريق ووسيلة انتاج، تقليل تكاليف، استخدام مدخلات، ... الخ) .

التكنولوجيا والصنعة
انطلقت دعوة الى تصحيح تاريخ التعدين في العالم اثارتها نتائج سلسلة من الاكتشافات الاثرية التي استمرت في العراق منذ نهاية السبعينيات. فما توصلت اليه البعثة السوفيتية في تل المغزلية قرب تلعفر من كشف نماذج من النحاس المطروق تعود الى الألف السادسة قبل الميلاد ومن حضارة حسونة، انما يأتي تأكيداً لاكتشافات سابقة بهذا المعنى (تمت في موقع الأربجية قرب الموصل، وتل الصوان قرب سامراء)، والتي تؤكد أن استخدام المعادن قد جرى في بلاد ما بين النهرين وانتشر في انحاء منها خلال الألفية السادسة قبل الميلاد وحتى قبل ذلك التاريخ. هذه المعرفة التي سبقت الآخرين من سكان العالم.

إن نتائج الاستكشافات في المناطق المشار اليها اعلاه وما تبعها من فحوصات على القطع الاثرية وتحليل منطقي وتاريخي لهذه النتائج انما تؤكد أن الصنعة في العصر القديم تمثل تقنية معقدة مدعمة بمعرفة السبب (العلم) لاتختلف كثيراً عما يمارس اليوم في صناعة البرونز.

وهنا سنستعرض أوجه الشبه والاختلاف بين تكنولوجيا السباكة في عصرنا هذا وتكنولوجيا الصنعة عند العراقيين القدماء.
السباكة والصنعة

تسلسل العمليات والمستلزمات(2، 3، 4، 5):
1-المواد الأولية والسكراب: تشير الأدلة الى وجود ثلاث صنوف من النحاس في قائمة مفردات لغوية وذلك مثل (نحاس من ديلمون)* ، (نحاس من ماكان)** ، (نحاس من ميلوها)*** وكان الغرض الاساس من ملاحظة وتحديد النقطة أو المكان الذي جاء من النحاس هو، على الأرجح، الدلالة على نقاوته، أو على صفاته الأخرى، ما دام يذكر في القائمة نفسها أيضاً (نحاس ثقيل)، (نحاس مطروق)، (نحاس مصبوب)، (نحاس متوسط الجودة)، (نحاس خالص)، (نحاس انتاج المنجم)، (نحاس ابلاه الجو).

2-الصهر: عند نهاية الالف الرابع قبل الميلاد كان سكان ما بين النهرين القدماء قد تعلموا بناء أفران قادرة على تطوير درجة حرارة تصل الى 1100ºم، أي فوق درجة انصهار النحاس. وبالرغم من أن النحاس والبرونز كانا معروفين، لمدى عشرين قرناً تقريباً قبل 3500 قبل الميلاد، الا انهما لم يعرفا جيداً الا عند هذا التاريخ.

3-مزج ومعالجة البودقة: لقد أوضح تكراراً في الأدبيات (النصوص القديمة) أن مابين 10-15% من القصدير، يسهل بشكل كبير، صهر ملاغم النحاس الأساسية. فمن الواضح أن بلاد ما بين النهرين القدماء أستعملوا البرونز أساساً لتسهيل الصب، وفيما كان تركيب القطع المحللة يتباين بشكل كبير، فمن الجلي أنهم كانوا يهدفون الى تركيب حوالي 6/1 من القصدير، فإن نصاً من النصوص السومرية بصدد نسب القصدير والفحم النباتي لمنع التأكسد:
( (1) مينا، (4) شقلات من النحاس المصفى (أو المغسول)، 3/2 10 شقل من القصدير، 3/2 4 شقل من الفحم النباتي، و 2/1 شقل، 21 حبة من SU.HE)
ويعني هذا:
-(2/1 6) وحدات من النحاس.
-(1) وحدة من القصدير.
-(2/1) من الفحم النباتي.
-والباقي 2 وحدة من مادة SU.HE غير معروفة.

إن هذا هو أقل من نصف الكمية من الكاربون النقي الذي سيكون مطلوباً لإختزال النحاس من أوكسيده، وهكذا فإن الفحم النباتي سوف يؤمن الحماية فحسب ضد الأكسدة، وذلك بالتعويم على قمة المصهور.
إن الأفران الفخارية المستعملة قبل 3000 قبل الميلاد كانت تحتوي أجواء تساعد على التأكسد ومن هنا، فمن غير المرجح أنها كانت تخفض تأكسد الخام وتختزله اتفاقاً وبعد ذلك بفترة وجيزة باتت الأفران الفخارية تبنى بشكل يضمن السيطرة على الغاز المسرب، ليطوّر جواً مؤكسداً ولتهيئة الشروط التي تقود الى التعدين العرضي. إن الفحم النباتي كان موضع الاستعمال من قبل المعدنين العراقيين القدماء لمنع التأكسد وكما هو الأمر في الممارسة الحديثة.

إن شظايا البوتقة الطينية، التي تحتوي الفحم النباتي، والنحاس والقصدير، والتي يمتد تاريخها الى حوالي 3000 ق م، قد عثر عليها في موقع Amouq**** ، الأمر الذي يظهر أن الاختزال قد مورس عند ذلك الوقت.

4-تصنيع القالب (طريقة السباكة): هناك قائمة مفردات بالغة الدلالة تقدم بالتتابع (تشكيل مبنى طيني)، (صهر النحاس)، (صهر النحاس في القوالب)، (صب النحاس). وينص منشور مثمن من عهد سنحاريب يعود تاريخه الى الألف الأول قبل الميلاد، ينص في بعضه ، على ما يلي:
(لقد صنعت قوالب الطين بأمر الأله، ثم صبيت البرونز فيها ومثل صب كل نصف شقل، أكملت صبها وبناءها، إن ثما الثور مصنوع من البرونز)

وفي هذه دلالة على السباكة في القوالب الرملية.

أما عملية السباكة بالشمع المذاب (Lost Wax Method) أو تغليف عملية الصب، كان يمارس منذ 2800 ق م على الأقل، وفي هذه العملية يصنع موديل شمعي للقطعة التي تصب وتكسى أو تغلف بالطين لتشكيل قالب، ثم يزال الشمع بالتسخين، تاركاً تجويفاً للشكل المطلوب بالضبط. وقد عثر على دليل جديد للاستعمال القديم، في نص يعود تاريخه الى (الألف الأول قبل الميلاد)، وهو ينص على أن الشمع المستخدم على الأرجح هو شمع النحل، وهو الشمع الذي يمثل أفضل الأنواع لهذا التطبيق الى يومنا هذا.

5، 6 – معاملة حرارية إبتدائية، معاملة حرارية نهائية:
إن الفحوصات المايكروسكوبية التي أجريت على عدد من المنتجات الصنعية، في المناطق الجغرافية المذكورة آنفاً، أثبتت وجود عدد من قطع المعدن التي صهرت وصبت فقط. ووجود قطع معدن أخرى صبت وعولجت بالتطريق، بالإضافة الى وجود قطع معدن صبت وعولجت بالتطريق، ثم لدنت بالإحماء والتبريد. إن هذه الخطوة الأخيرة (التلدين بالإحماء والتبريد) ضرورية إذا ما أريد إجراء معالجة واسعة كثيفة، ذلك أن التطريق يقسي المعدن، ويجعه أقل لدونة. أما التلدين المتكرر (بالتسخين والتبريد) فهو ضروري إذا ما أريد إحداث تغيرات واسعة في الشكل بالتطريق. لقد كانت خبرة الصب الممارسة قبل 3500 ق م رفيعة ومعقدة. وبالتأكيد فإن كثيراً من الأشكال البسيطة كانت تصب في قوالب مفتوحة، وكانت تطرّق لاحقاً، إلى أن تكتسب الشكل النهائي. وعلى أية حال فقد عثر في مصر، في عهد السلالة الرابعة، على موسى مصنوعة من البرونز الحقيقي بحافة مقساة بالمعالجة العنيفة.

الأستنتاج :
-إن الاستنتاج بأن الاستعمال الأساس للقصدير كان لتسهيل عملية الصب، بدليل أن المنتجات الصنعية التي كانت تصب في أشكال معقدة تحوي على نسب القصدير، وبالمقابل فإن القطع الأصغر، المطرّقة نهائياً لتشكيل المنتجات الصنعية، لم تكن تحوي قصديراً، ينفي فكرة أن البرونز الأقدم كان يصّنع من خام النحاس والقصدير بطريقة أتفاقية، ويعطي دليلاً على أن البرونز قد برز للعيان نتيجة للبحوث والمساعي التجريبية لسكان بلاد ما بين النهرين القدماء، كما أن الدليل المستقى من الأدبيات، على الأقل، يشير الى أن البرونز كان يصّنع من النحاس والقصدير الخالصين تماماً.

2-أن المقارنة البسيطة لتكنولوجيا السباكة من خلال تسلسل العمليات ومستلزمات الانتاج كما تمارس في وقتنا الحاضر، مع ما كان يجري في بلاد ما بين النهرين لتصنيع منتجات من البرونز (صنعة البرونز) قبل (3500 ق م) كما ورد في محور السباكة والصنعة توضح أوجه الشبه في المستلزمات المستخدمة وتسلسل العمليات. وتؤكد وجود معرفة السبب (المعرفة العلمية) ولكن بالمفهوم السائد في ذلك العصر، وبصيغة عرض مختلفة عن المفهوم النظري المعمق الذي نعتمده اليوم في تطوير هذه التكنولوجيا. فمثلاً حددت نسب القصدير المعتمدة لإنتاج مسبوكات البرونز في العهد القديم (قبل 3500 ق م) بـ 10-15%، وتنخفض هذه النسب في المصنعات التي يتطلب انتاجها عمليات تطريق بعد السباكة. هذه النسب تتطابق مع نسب القصدير في نوعيه البرونز المسبك (Cast Bronze) المحددة بـ 18% كحد أعلى، وفي البرونز المشكل (Wrought Bronze) والبالغة 7% قصدير تقريباً، المعتمدة في عصرنا هذا وفقاً للمفهوم النظري المتمثل بمنحنى التوازن الحراري لعنصري النحاس والقصدير(6).

إن المعرفة العلمية النظرية (معرفة السبب) بالمفهوم النظري السائد في الوقت الحاضر ظهرت بداياتها في القرن الثامن عشر، فكيف تطابقت مع معرفة السبب وفقاً للمفاهيم السائدة قبل (3500 ق م) .... سؤال يطرح نفسه!

أما المستلزمات المستخدمة في تقنية صنعة البرونز قبل 3500 ق م متمثلة بأفران الصهر، البواتق، السيطرة على أجواء الفرن (لتطوير جواً مؤكسداً أو مختزلاً) واستخدام الفحم النباتي، وقوالب الصب المصنعة من الطين (سباكة رملية)، أو بطريقة الشمع المفقود، فهي أيضاً لا تختلف كثيراً عن المستلزمات المستخدمة في سباكة البرونز في عصرنا هذا، سوى أن الأخيرة، قد تطورت باتجاه مكننة الانتاج وإحكام السيطرة النوعية، مطورةً للتكنولوجيا من تكنولوجا تقليدية حرفية الى تكنولوجيا حديثة نمطية.

ما جاء أعلاه يمثل دليلاً على أن زاوية التكنولوجية في الصنعة عند القدماء قبل (3500 ق م) تقترب من 45 درجة بما يعكس المفهوم الحضاري المتكامل لسكان بلاد ما بين النهرين.

3-سؤال يطرح نفسه: كيف يمكن أن تمثل بعض الصناعات والحرف القديمة لغزاً صناعياً الى يومنا هذا بالرغم من التطور المعرفي والتقني قياساً مع زمن تحقيق الحرفة؟ والأمثلة علـى ذلك كثـيرة فـي صناعة الفخار والزجاج وصناعة الأصباغ والعقاقير والأدوية ومواد البناء والمعادن ونأخذ مثالاً صناعة الصلب الدمشقي(7، 8) التي تنافس العلماء على فك رموزها لفترة امتدت أكثر من 200 عام الى يومنا هذا ويصبح السؤال أصعب إذا علمنا:
-أن صناعة لصلب الدمشقي (المتجسدة في صناعة السيوف الدمشقية) قد اندثرت خلال القرن الثامن عشر.
-بينما تبلورت المعارف النظرية بمفهومها الحديث ذات الصلة بهذه الصناعـة [XXXXllurgy and XXXXllugraphy] خلال القرن ذاته.
-ان مخطوطات الكندي والبيروني قد تضمنت الاشارة الى بعض مفاتيح هذه الصناعة في القرن العاشر والقرن الحادي عشر بما يشير الى وجود فارق زمني بين المعرفة النظرية (معرفة السبب) ومعرفة الأداء (معرفة الكيف) كبير بما يصعب تفسير هذه الصناعة نظراً لتعدد المعارف التي تنطوي عليها هذه الصناعة وتراكب السبب والكيف فيها.