المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علو الهمة واثرة فى النهوض بالنفوس



زينة الايات
17-12-2009, 10:56 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.............................. ....................



إن أفضل ما يتحلى به العبد همة يعلو بها على شهواته وملذاته، ويصعد بها إلى أعالي القمم، هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل باب من أبواب الخير، تجعله يحلق بقلبه في سماء الفضيلة، فينال منها القدح المعلا، ثم ينطلق إلى كل أَمْرٍ أَمَرَ الله عز وجل به، فيكون فيه رأسًا، ويحلق بقلبه في سماء الطاعات، فتسرع فيه كل ذرة تشتاق لأمر ربها، ويدع كل رذيلة نها عنها ربه سبحانه وتعالى.
تعريفُ الهِمَّةِ
لغةً:
"الهِمَّةُ" بالكسر: أَولُ العزمِ، وقد تطلق على العزم القويّ فيقال: هِمَّةٌ عالية.(1)
والهِمَّةُ: ما هممت به من أمر لتفعله. تقول: إنه لعظيم الهِمَّة، وإنه لصغير الهمة.(2)
شرعًا:
عرفها ابن القيم:
بقوله: الهمة فعلة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهم مبدأها والهمة نهايتها.(3)
العبدُ يسيرُ إلى اللهِ بقلبِهِ وهمتِهِ لا ببدنِهِ
يقول ابن القيم /:
اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه. والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح.
قَالَ تَعَالَى:
﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾.
وقال: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ».(4)
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والقدم والسبق إلى الله -سبحانه- إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام الإحسان.
فأكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان موفيا كل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله حتى تَرِم قدماه، ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات الَّتي تعجز عن حملها قوى البشر.(5)
القرآنُ الكريمُ يَحُثُ المؤمنَ على ارتيادِ معاليَ الأمورِ.
لقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة،
وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك، فمنها:
1- ذمّ ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة: كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه:
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾.
2- ذم الله -تعالى- المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون،
فَقَالَ تَعَالَى في شأنهم:
﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى:﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾.
3- شنع الله عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وبين أن هذا الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن
قَالَ تَعَالَى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
4- أثنى الله -تعالى- على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون -عليهم الصلاة والسلام- وعلى مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ،
فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾.
وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أخبر سبحانه وتعالى عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
5- وصف الله -تعالى- أوليائه الذين علت همتهم في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله بوصف الرجال،
فقال عز وجل:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وقال -سبحانه-:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
6- أمر الله -تعالى- المؤمنين بعلو الهمة والمسارعة في الخيرات،
فقال تعالى:
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
وقال:
﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتٌِ﴾.
وقال:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
تباينُ الناسِ في الهمِّ:
ينقسم الناس في علو الهمة إلى أقسام:
القسم الأول: من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمن مغرور.
القسم الثاني: من لا يطلب إلا سفاسف الأمور:
وهم فريقان:
الفــــــريـــــــق الأول:
ذو همة في تحصيل تلك الدنايا، فتجده السباق إلى أماكن اللهو ومغاني الغواني، وهذا إن اهتدى إلى الحق فسيكون ذا همة عالية نفيسة،
عَنْ أَبِى هُرَيْرَة سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ». قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِىُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِىِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ». قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِى، النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا».(6)
الفــــــريــــــق الثاني:
لا هم لهم، فهم معدودون من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا يفتقد إذا غاب ولا يسأل إذا حضر.
القسم الثالث:
من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله، وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه.
وبين هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة،
قال ابن القيم /:
((لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذته في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال. فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا التفتت إليه وربما تألمت من ذلك، كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه. وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والأنس بربه، فهذاممن
قَالَ تَعَالَى فيه:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وأنجسهم حظا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات:
قال تعالى:
﴿ أذهأَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾.
فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا بالطيبات. وافترقوا في وجه التمتع، فأولئك تمتعوا بها على الوجه الِّذي آذن لهم فيه فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الِّذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت لهم، ولا لذة الآخرة حصلت لهم، فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلا له إلى لذة الآخرة بأن يستعين بها على فراغ قلبه لله إرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجم نفسه ههنا بالترك ليستوفيها كاملة هناك، فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهمته، وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة. فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا)).(7)
ونرى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا،
فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس أمر العامة واستثناؤهم واجب؛ لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور، واطلع على أحوال الخاصة من الشباب والدعاة وطلاب العلم سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمة.
*فمنهم من إذا قرأ ساعة في اليوم ظن أنه أتى بما لم يأت به الأوائل.
*ومنهم من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم.
*ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم على سماع بعض الأشرطة وحضور بعض المحاضرات.
*ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا والتمتع بمباحاتها تمتعًا يفضى به إلى نسيان المعالي العلية.
وهكذا
يندر أن تجد إنسانًا استطاع أن يسكن القمم، وأن يعلو بهمته، ويجمع شمله، ويقصر من الاعتذارات والشكايات، فتصبح حياته مثلًا أعلى يحتذي به، ولكن القليل هم الذين يستثمرون هممهم حق الاستثمار، ويحاولون أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.
إن تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالا لا يتحقق، يستطيع سكان القمم بتوفيق الله لهم أولا وبهمتهم ثانيا، إنجاز الكثير من الأعمال الَّتي يستعظم بعضها من قعدت به همته وظنها خيالا.
وأعظم مثال على هذا
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
* إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه، لكنه -عليه الصلاة والسلام- استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس في أقل من ربع قرن من الزمان، واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آن ذاك، وجهاده -عليه الصلاة والسلام- وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمر معروف.
*والصديق استطاع في أقل من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت فارس والروم، هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم، ولكن همته العالية أبت عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالا لا ينجز.
أصحاب الهمة يعتمد عليهم، وتناط بهم الأمور الصعبة، وتوكل إليهم، وهذا أمر مشاهد معروف، سكان القمم أحدهم يكون بمثابة فريق من الدعاة، يرفع الله به الدعوة درجات.
وقد قيل:
"ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخبيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا".
أصحاب الهمم قدوة في مجتمعهم، ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون، فيقتدون بهمته ويرون ما كانوا يظنونه أمرًا مسطورًا في الكتب القديمة قد انتهى،
وعدم من دنيا الناس، يجدونه واقعًا متحققًا في حياتهم، فيظل هذا الشخص رمزًا للناس ومحل ضرب أمثالهم.
إن الارتقاء بالنفس أمر مطلوب، ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم.
((حياةُ القلوبِ))
قال ابن القيم :
حياة الإرادة والهمة وضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة الَّتي تحول بينه وبين طلبه وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس، وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفهما دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها، فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبا، وحياة البهائم خير من حياته
كما قيل:
نـــهارك يا مغرور سهو وغفلة•••وليلك نوم والـــــردى لك لازم
وتكــــدح فيما سوف تنكر غبه••• كذلك في الدنيا تعيش الــبهائم
تـــسر بما يفنى وتفرح بالمنى••• كما غر بالـلذات في النوم حالم
والمقصود:
أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة، والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا: هو حي القلب، وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب،
كما قال عبد الله بن المبارك:.
رأيت الذنوب تميت القلوب••• وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب••• وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملو••• ك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا••• ولم يغل في البيع أثمانها
فقد رتع القوم في جيفة••• يبين لذي اللب خسرانها

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية:
يقول:
من واظب على "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة، أحيى الله بها قلبه، وكما أن الله -سبحانه- جعل حياة البدن بالطعام والشراب، فحياة القلب بدوام الذكر، والإنابة إلى الله، وترك الذنوب، والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت، وعلامة موته أنه لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا،
كما قال عبد الله بن مسعود:
أتدرون من ميت القلب؟
الِّذي قيل فيه:
ليس من مات فاستراح بميت••• إنما الميت ميت الأحياء
قالوا:
ومن هو؟
قال:
قال: الِّذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، والرجل هو الِّذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح، فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل، والنبات السريع الجفاف، والمنام الِّذي يخيل كأنه حقيقة، فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا
كما قال عمر بن الخطاب :
"لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد، ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ، فإذا ليس في يده شيء".
وقد قيل:
"إن الموت موتان: موت إرادي، وموت طبيعي، فمن أمات نفسه موتا إراديا كان موته الطبيعي حياة له".
ومعنى هذا
أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المردية وإخماد نيرانها المحرقة، وتسكين هوائجها المتلفة، فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ومعرفته والاشتغال به، ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران، فأما إذا كانت الشهوات وافدة، واللذات مؤثرة، والعوائد غالبة، والطبيعة حاكمة، فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرًا ذليلًا، أو مهزومًا مخرجًا عن وطنه ومستقره، الِّذي لا قرار له إلا فيه، أو قتيلًا ميتًا، وما لجرح به إيلام، وأحسن أحواله أن يكون في حرب يدال له فيها مرة ويدال عليه مرة، فإذا مات العبد موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة الَّتي حصلت له بإماتة نفسه، فتكون حياته ههنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار، وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية والنفوس الزكية الأبية.(8)

((اجعلْ هَمُكَ الآخرةَ))
إن حياتك مغامرة كبيرة وإن عمرك لحظات قليلة، فإياك أن تخرج منها خاسرا قبل أن تبنى لك بيتا في الجنة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
«مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».(9)
إنه وعيد من الله لمن كانت الدنيا أكبر همه، فهو مقبل عليها بكليته يجمع حطامها في نهم، لا ينقضي، منشغل بذلك عن الآخرة، فمن كانت هذه حاله عوقب بشتات القلب، فلا يزال لاهثا وراء المال والمناصب والشهوات، يعب منها، لكنه لا يشبع، ولا يرتوي، ولا يكتفي، بل يظل في طلب المزيد، غافلا عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق، وإن حاله هذا هو عين الفقر؛ حيث لا تنتهي حاجته، ولا يحصل له الرضا بما جمع من المال، وهذا معنى
«جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ».
وفى المقابل:
حال الرجل الصالح، الِّذي جعل الآخرة همه، فهو في سعي دائم لتحصيل الحسنات، والوصول إلى مرضاة رب الأرض والسماوات، مع حسن توكله على الله، فهذا يجمع الله له أمره، ويرزقه القناعة والرضى وغنى النفس، ويبارك له في ماله وصحته وأولاده، وهذا هو الغنى الحقيقي.
روي أن أعرابيا سأل أناسا من أهل البصرة: من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا الحسن -أي البصري- فقال: بم سادهم؟ قالوا: "احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم".
أصحاب الهمم أبعد ما يكونون عن زخارف هذه الدنيا وبهرجها الهم الأكبر لهم الآخرة أما الدنيا فقد استصغروا متاعها واحتقروا نتائجها وترفعوا عن الاستباق فيها فتحرروا من قيودها وهمومها
يقول الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ : أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا.
قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».(10)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ»
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ.(11)
قال الله -تعالى-:
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
إن المكارم لا تحصّل بالمنى ••• لكن لها بالتضحيات سبيلا
فلكم سما للمجد من أجدادنا ••• بطلٌ أقام على السّمو دليلا
فسل المعالي عن شجاعة خالد ••• وسل المعاركَ هل رأته ذليلا
وسل الحضارة إن رأيت بهائها ••• عمن أنار لهديها القنديلا
وسل المكارم والمعالي هل رأت ••• من بُعدِهم في ذا الزمان مثيلا
هذى المكارم عندهم كبداية ••• لسلوك درب ما يزال طويلا
في الأرض مجدهم ولكن قلبهم ••• لجنة الفردوس رَام رحيلا
وخذِ المكارم لا تخف أعبائها ••• عبءُ المكارم لا يكون ثقيلا
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ :
«لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ».
(12)
قال ابن القيم /:
((علو الهمة لا تقف دون الله -تعالى-، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه))،
وأعلى الناس همة وأرفعهم قدرًا من كانت لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقاءه.
اللهم اجعلنا منهم يارب العالمين



لا تنسوا الدعاء لصاحب الموضوع

بنت الشارقة
18-12-2009, 06:39 PM
http://sam33.jeeran.com/016.gif