المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السخرية في الادب العربي ( جاهز )



يا كثر همي
20-11-2009, 11:37 PM
تقــديم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وبعد:

فقد راودت نفسي فكرة معالجة هذا الموضوع منذ أمد ، منذ أن قرأت الأدب العربي دارساً ومدرساً. وألممت بتلك النظريات التي دارت حول مناهج البحث فيه: تلك التي تعددت بين مدرسية، وإقليمية، ونفسية، وغيرها.

وهأنذا اليوم أقدم دراستي عن غرض من أخطر أغراض الأدب العربي شعره ونثره: ألا وهو "السخرية" التي ظلت موضع اهتمام الأوربيين والأمريكيين وغيرهم منذ أمد طويل، معالجة وممارسة وتأليفاً، حتى بلغت كتبهم في ذلك المئات، وظلت أيضاً تعالج بحثاً في دوائر معارفهم تحت ألفاظ متعددة منها comedy , laughter , srcasm , satire , Irony , Humour , caticature ..etc .. وغيرها ، بينما لا نكاد نعثر على مؤلف عربي يضارع أو يقارب ما هو موجود لدى هؤلاء القوم.

ولعلي قد استطعت في بحثي هذا عن السخرية أن أملأ الفجوة التي نشعر بعمقها: سواء في محاولة استكناه هذا الموضوع، أو في دراسة طائفة من الساخرين الذين ينبثون في أدبنا العربي هنا وهناك.



الفهرس

تقديم
مقدمة
حاجة الإنسان إلى الضحك
محاولة تعريف الضحك
الضحك وأنواعه
السخرية والهجاء
ألفاظ السخرية وتعريفها
أسباب السخرية
مقومات السخرية
السخرية في البلاغة العربية
أساليب السخرية
صور السخرية
صيغ السخرية


الباب الأول

قدم السخرية ورسوخ قدمها عند الأوربيين
في الأدب الغربي
الأدب الجاهلي
السخرية في عصر النبوة
السخرية في القرآن الكريم


الباب الثاني : الساخرون

أدب السخرية في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي حسان والحطيئة
جرير
أدب السخرية في العصر العباسي
ابن المقفع
الجاحظ
أبو العيناء
الحمدوني
أبو العلاء المعري

ذيل: تحقيق مقطعات الحمدوني في الشاة
في الطيلسان
المراجع





مقدمة

1- حاجة الإنسان إلى الضحك:

لكل إنسان حي في هذا الوجود حاجات مادية كثيرة، يستطيع في أكثر الأحيان الوصول إليها، وقد تحول في بعض الأحيان بينه وبينها الحوائل والموانع، فلا يصل إلى بغيته: إما لأسباب مادية تجعل ما ينبغي تحقيقه أمراً صعباً أو مستحيلاً، وإما بسبب طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه: إذ تختلط رغباته برغبات غيره، وتصطدم مطالبه بمطالبهم، فيتوقف وصوله إلى أهدافه على مقدار علاقته بهم، وعلاقتهم به.

فإذا أخفق الإنسان في الوصول إلى غاياته، امتلأت نفسه أحقاداً، ما تلبث أن تؤثر في جسمه وجهازه العصبي تأثيراً سيئاً، ويزداد هذا التأثير سوءا حتى ينتهي إلى أحد أمرين:

إما أن يصاب بعلة في عضو من أعضائه، أو ينتابه فتور عام يضني به الجسم ويهزل.
وقد يحاول المرء أن يخفف عن نفسه ما يفدحه من آلام فينجح في التخلص منها أو من بعضها نجاحاً ما، بالتسرية عن نفسه أو بالاختلاط بأفراد جنسه، شاكياً بثه وهمه، أو مستمعاً إلى ما يشبه آلامه، فتخف تلك بمثيلاتها تأسياً... وهكذا تحدث شبه حركة داخلية في الجسم، يفطن إليها الإنسان بطبيعته، فيزاولها، وكذلك قد يكون للحركة الخارجية التي تهتز بها أعضاء الجسم، كانتقاله من مكان إلى آخر مغاير لما كان فيه، قد يكون لهذه الحركة تأثير قوي في تخلصه شيئاً فشيئاً وإلى حد ما، مما يعاني من آلام.

إذن فالحركة – داخلية نفسية أو خارجية عضوية – هي من أقوى الدعائم التي يحاول الإنسان بها مواجهة عوامل الهدم في الطبيعة، بالتخلص مما يعكر مزاجه من شوائب مادية أو نفسية، وقد عبر أرسطو عن الجانب النفسي من تخلص الإنسان من آلامه بقوله: "إنه يطهر عواطفه".

والطفل – بمحض غريزته – لا يستطيع إلا أن يقضي طفولته وصباه متحركاً في كل الأمكنة التي تستطيع أن تحتمل حركته، وتتسع لها، وعملية نموه في الحقيقة ما هي إلا حركة مستمرة. وما الحياة إلا حركة دائبة تؤدي نشاطها داخل العالم الأكبر المتحرك بأجرامه المختلفة المتعددة، سواء منها الذي وصل إلى علم الإنسان أو مالم يصل إليه بعد بأبحاثه الفلكية.

إذن فالجانب المادي من جسم الإنسان ينشد الحركة الخارجية لمعالجة الرواسب المتعددة والتخلص منها، كذلك الجانب الذهني من الانسان يحاول بالحركة أن يطرد الآلام التي هي أفكار ذهنية وعواطف لا يحبها بل بمقتها كل المقت ويحاول أن يتخلص منها.

وليست هناك وسيلة للتخلص من العواطف المؤلمة المختلفة إلا بحركة ذهنية داخلية تطرد هذه الآلام خارجاً، ولا تتولد هذه الحركة إلا بالضحك.


***

2- محاولة تعريف الضحك:

والضحك استعداد فطري في الإنسان لا يكتسبه بالتجربة، وهو انفعال إنساني خاص يتميز به عن بقية الحيوانات، ولذلك عرف الانسان بأنه حيوان ضاحك. وله – ككل الغرائز- أركان ثلاثة: مؤثر أو باعث يستثيره، وحالة انفعالية مصاحبة، ووظيفة أو غاية يسعى إلى تحقيقها.
ولذلك فالمقصود بالدراسة ذلك الضحك العميق الذي ينتهي بالانسان إلى حالة الانشراح المعروفة لا مجرد السمات الخاصة التي تظهر على الفم وأسارير الوجه.

وما الضحك إلا حركة داخلية وخارجية، لها سماتها المعروفة بإخراج صوت خاص من جهة، وباهتزاز الجسم هزات تختلف وقوة الضحك من جهة، وطريقة الأشخاص وعاداتهم من جهة أخرى.

وإذا تأملنا الضاحك في أثناء ضحكه، واستبطنا أنفسنا في أثناء عملية الضحك تبينا لأول وهلة انفراج الفم وإخراج هذا الصوت الذي يبدأ بحرف ( هـ ... ) والذي يخرج من الجوف في صورة أمواج متتابعة كأنه تيار من الهواء يجتذب معه آلام الضاحك إلى الخارج. وكذلك تحريك أعضاء الجسم كالرأس إلى الوراء والرجلين واليدين. ويقال إن هذه العملية – عملية الزفير والشهيق في أثناء الضحك – تؤثر في الحجاب الحاجز، فيؤثر – باهتزازه – فيما تحته من أعضاء داخلية، فيسرع نشاطها ، وبذلك يمكن أن يكون هذا الوصف، هو ما يحدث من تأثير للاهتزاز العضوي الداخلي النفسي ، فينتج ما يسمى السرور أو الانشراح Euphoria أو الارتياح أو الابتهاج أو ما يمكن أن نسميه الانتعاش الجسمي النفسي.

وقد حاول العالم الانجليزي، سبنسر تفسير الضحك بما يشبه تفسيرنا السابق ويعرف تفسيره بنظرية الطاقة. وبذلك كان سبنسر ممن يفسرون الضحك بتفسير فسيولوجي، وهناك بعض الفلاسفة يحاولون تفسيره تفسيرا نفسيا محضا ضاربين صفحا عن الناحية الفسيولوجية التي يحسها الانسان في أثناء الضحك. وهكذا انقسم الفلاسفة منذ فجر الانسانية إلى فريقين: أحدهما يفسره ذلك التفسير الفسيولوجي، والآخر ذلك التفسير السيكولوجي، وأخيرا حاول بعضهم الربط بين التفسيرين فيما سمي بالسيكوفسيولوجي. ولعل الفلاسفة الوجوديين هم أقرب الناس إلى فهم هذه الظاهرة الإنسانية فحاولوا الابتعاد عن محاولة تفسيرها قائلين: "يحسن بنا أن نقلع عن محاولة تفسير الضحك أو البحث عن علل للفكاهة، لكي نقصر على النظر إلى الملابسات أو الذرائع التي تكتنف تلك الظاهرة ولو أننا حاولنا أن نفهم الضحك باعتباره ظاهرة نفسية ذات دلالة إنسانية، لتبين لنا أن هناك من أفانين الضحك بقدر ما هنالك من مواقف بشرية. من العبث أن نجتزئ في فهمنا للضحك بتطبيق نظرية واحدة نحاول عن طريقها أن نتأول شتى المواقف البشرية المضحكة، لأن الحياة البشرية أكبر من أن تحيط بها نظرية تقوم بتأويل ما تنطوي عليه مواقفها الكثيرة من قيم ومدلولات.


3- الضحك وأنواعه:

وليس للضحك أنواع مختلفة متباينة كما يفهم من عنوان هذه الفقرة، ولكنها أوجه مختلفة لذلك الجسم الحي المسمى بالضحك، وذلك لأن الحدود التي تفصلها هي من اللطف بحيث قد تخفى على عين الانسان ولا يستطيع التمييز بينها تمييزا تاماً. غير أننا يمكن أن نعد من حالات الضحك أو ما يضحك: الفكاهة والسخرية. وكثيراً ما يخلط الناس بينهما ولا يكادون يفرقون بينهما حين يشملهم الجو المرح الضاحك وتنبعث من أفواههم النكات التي يمكن أن تكون لمجرد الإضحاك فحسب وحينئذ فهي الفكاهة، وقد تكون بقصد اللذع والإيلام فهي السخرية، وقد تجمع بين الغرضين.



فمن النكت الفكاهية ما يروى عن أحد المفرطين في شرب الخمر أنه قال له أحدهم: إن الخمر انتحار بطيء.
فأجاب: ولماذا تريدونني أن أنتحر بسرعة؟!

عجبتني http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/vor.gif



ومن النكت الساخرة نادرة تروي عن أحد الأمراء، فقد التقى يوماً بغريب يشبهه تمام الشبه، فابتدره بقوله:
- هل كانت أمك يا هذا تقيم في البلاط الملكي؟
فأجاب الغريب ببديهته الحاضرة: كلا يا سيدي، بل أبي!


يعني طلع الأمير ابن حرام http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/biggrin5.gif
بشرحلكم بس http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/rolleyes.gif


وإذا روى أحد الأشخاص النكتة السابقة لبعض الجالسين بقصد الضحك فهي فكاهة، أما إذا حدثت فعلا في مجلس من المجالس فيعد الرجل ساخراً بالأمير، ولذلك تسمى سخرية.


ومثلها ما يروى عن الممثل الساخر شارلي شابلن حين سئل عن المرأة الطيبة في العالم ،فقال: امرأتان طيبتان في العالم.. إحداهما ماتت، والثانية مفقودة.
صح http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/tongue.gif

وهكذا نرى أن كل ما يضحك ، فهو هزل، ولكنه ينقسم قسمين:
أحدهما ليس له غرض أو هدف إلا الإضحاك فحسب وهو ما يطلق عليه الفكاهة، والآخر له غرض هادف واضح – سواء أكان معينا أو غير معين حين إلقاء النكتة – وهو السخرية.

ولذلك كان المزاح يشمل النوعين: التفكه والسخرية أي الاضحاك واللذع، ويكون المزاح في أول أمره لإشاعة جو مرح ضاحك بين الجالسين ولكنه كثيراً ما ينقلب في النهاية إلى سخرية يتضرر منها بعض الأفراد وقد يعقبها شجار، ولهذا اشتملت كتب الأدب القديمة على النص على كراهية المزاح.


4- السخرية والهجاء :

عرفنا في الفقرة السابقة أن السخرية تلتقي مع الفكاهة في المنبع الذي تنبعان منه، وقد تختلط إحداهما بالأخرى كامتزاج رحيقي فاكهتين مختلفتين، وقد تفترقان، كذلك تمتزج السخرية بالهجاء من ناحية الوظيفة وكلنهما يفترقان من ناحية المادة أو الطبيعة التي يشتمل عليها كل منهما. فالهجاء طريقة مباشرة في الهجوم على العدو، ولكن السخرية طريقة غير مباشرة في الهجوم.





5- ألفاظ السخرية وتعريفها :

وللموضوع الذي نحاول بحثه عدة ألفاظ في اللغة العربية سنحاول فيما يلي أن نسوق موادها المختلفة، والمعاني التي تحملها في طياتها بحروفها ورنينها : فهناك الاستخفاف والمداعبة والتعريض والضحك والهزء والتندر والسخرية والتهكم. وسنحاول التعرض لمعاني أهم الألفاظ السابقة:

أما مادة "هزء" ففيها الحرفان (الهاء والزاي) وهما يوحيان بالخفة واللين، وأصلها من قولهم: أهزأه البرد: إذا قتله، وهزأ الرجل إبله هزءاً: قتلها بالبرد، وهزأت الراحلة: إذا حركتها. ففي المادة تحريك وقتل بارد لين من غير عنف أو صوت، وتكسير.

أما مادة "تهكم" ففيها التهكم: وهو السيل الذي لا يطاق، والتهكم تهور البئر، وتهكمت البئر: تهدمت. والتهكم : الطعن المدارك، فالمادة فيها الهجوم بقوم وبصوت مسموع، كذلك فهي تصف صاحبها بالكبرياء: فالمتهكم: المتكبر، والهكم: المتقحم على ما لا يعنيه الذي يتعرض للناس بشره، وقد تهكم بنا: عبث بنا وزرى علينا.
إذن: فالتهكم: استهزاء في قوة، وعدم خفاء، وفي تقحم.

أما مادة "تندر" فهي من ندر الشيء سقط وقيل سقط وشذ ، وقيل سقط من خوف شيء أو سقط من جوف شيء أو من أشياء فظهر. ولم أجد في المعاجم تندر عليه، والظاهر أنها أخذت من أصل المادة "ندر" وفيها محاولة الإسقاط أو إظهار العيوب بطريقة ملتوية فيها تباله وتجاهل وإظهار نوادر الشخص الذي يتندر منه وشذوذه.

أما السخرية : فمن مادة ( س خ ر ) وأصل التسخير: التذليل، جاء في (اللسان: سخر) سخرته: أي قهرته وذللته. وسخره تسخيراً: كلفه عملا بلا أجرة، وكل مقهور مدبر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر فذلك: "مسخر" وتسخرت دابة لفلان: أي ركبتها بغير أجر. وأصل المادة في المعجم تدور بعامة حول "اللين" من الناحية الصوتية فإذا تتبعناها عرفنا مقدار ذلك، سواء أكان الحرفان (س ، خ ) متواليين كما ذكرنا في الهامش، أو منفصلين، ومن هذا يتبين لنا أن الحرفين (س خ ) في كلمة (سخر) يوحيان باللين (التذليل) والخفاء، وعدم الإبانة بطريقة مباشرة.

وتذكر هذه الألفاظ في المعاجم مترادفة بمعنى السخرية، ولم تحاول التفريق بين معانيها الدقيقة، بل لم تهتم بإيراد شواهد كثيرة لكل كلمة، وقد تركت أيضاً المعنى العام الذي شمل السخرية والاستهزاء والتهكم بدون تعريف يقربه من الأذهان، يدل على ذلك ما جاء في اللسان في مادة (عنظ) قال: عنظى به: سخر منه وأسمعه القبيح وشتمه، وفي مادة (فلح) التفليح: المكر والاستهزاء، وقد فلحوا به: أي مكروا به وقلح بهم تفليحا مكر وقال غير الحق.

***

ومهما يكن من أمر، فقد اخترنا كلمة "سخرية" عنوانا لبحثنا، لأنها أقرب الكلمات دلالة على الموضوع: إذ ورد معناها في اللغة مشتملا على التذليل، والساخر – في الحقيقة – يحاول إخضاع خصمه له، وفي هذا ما فيه من تشف عميق، وإراحة لنفسه المتعبة المكدودة، وكذلك لاشتمال الكلمة على السين والخاء: وهما الحرفان اللذان يعبران عن اللين والطراوة والخبث والدهاء، بعكس لفظه "تهكم" التي تدل على محاولة الهدم المفاجئ، أو كلمة "الهزء" التي تدل على السخرية الصريحة السريعة العابرة فهي أشبه بالجملة العارضة منها بالروح الذي وطد العزم وكرس قواه لهذا الصنيع: وهو الاشتفاء من الناس – بسبب ما – بالسخرية منهم: ففي السخرية لين أشبه بلين الأفاعي، والساخر أفعى ليس له صوت حين يسير أو حين يسخر، ولكنه يقتل بسخريته. وهنا يلتقى المعجم العربي مع الكتاب الأوربيين في محاولتهم تعريف السخرية حين يقول أحدهم:

"طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة. وهي صورة من صور الفكاهة تعرض السلوك المعوج أو الأخطاء، التي إن فطن إليها وعرفها فنان موهوب تمام المعرفة، وأحسن عرضها، تكون حينئذ في يده سلاحا مميتاً.

وقال آخر: "... وهي طريقة في التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان ، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفاً وإخافة وفتكاً."

وقال ثالث : "السخرية سلاح شائع عند جميع الكتاب، والمؤلفون الكبار يأخذون أنفسهم بممارستها، وهي تظهر في شعر الملاحم وفي التراجيديا علاوة على الكوميديا ، والخطباء يستمدون منها النبرات المؤثرة وكذلك تتخذ البلاغة منها سلاحاً أشد فتكاً لا يمكن إغفاله أو الاستهانة به. وتكون السخرية – في بعض الأحيان – سمة دالة على قمة اليأس."

ويمكن تعريف السخرية بعامة بأنها: النقد الضحك أو التجريح الهازئ. وغرض الساخر هو النقد أولاً والاضحاك ثانياً، وهو تصوير الانسان تصويرا مضحكا: إما بوضعه في صورة مضحكة بواسطة التشويه – الذي لا يصل إلى حد الإيلام – أو تكبير العيوب الجسمية أو العضوية أو الحركية أو العقلية أو ما فيه من عيوب حين سلوكه مع المجتمع، وكل ذلك بطريقة خاصة غير مباشرة.

ولا نرمي بالتعرف السابق حصر المضحك أو السخرية في تعريف لأن عملية السخرية وكيفيتها شيء حتى قبل كل شيء: "ومهما يكن هذا الشيء خفيف الوزن، فإنا نعامله بما تستحقه الحياة من احترام" وقد أصاب علم المنطق الحديث والباحثون فيه بقولهم: لا يمكن تعريف شيء من الأشياء على وجه الأرض تعريفاً جامعا مانعا، لأن الشيء الحي لا يمكن الإحاطة به وتصويره ببعض ألفاظ قاصرة إذ هو حي متحرك ، والألفاظ – مهما تكن – جامدة ساكنة، فكيف يمكن وضع الحي في قوالب جامدة ساكنة؟ فهو إما أن يوضع فيها فيموت وإما أن يحطمها ويخرج إلى متنفس الحياة لكن يبقى حياً خالداً في الأنفس الحية الخالدة، ومصداقا لهذا جاء في كتاب علم النفس: ".. إننا لو حاولنا حصر الانفعالات التي تدخل في تكوين انفعال ما – على ما يظهر لنا – لبقيت بقية تقتصر اللغة عن تسميتها ووصفها... فمهما يبلغ الانفعال من التعقد والتركيب، فلا بد أن يدخل في تركيبه عنصر نفسي خاص، ليس من المستطاع تسميته".

والسخرية يحسها المتفنن وقارئ الفن معا، يتفقان في الاحساس بها والاحتفاء بها دون أن يعنيهما تعريفها، لأنهما في الحقيقة ربما عجزا عن تعريف، ولذلك حاول آدلر تحليل السخرية – بصفتها انفعالا مركبا – فقال إنها مركبة من غرائز ثلاث: الغضب ، والانتقام ، والخضوع ، ثم قال بعد هذا صادقا: "ولست مقتنعا إلى اليوم بأي تعريف لها فيما قرأته إلى الآن" وقال عن اللعب والمجانة – وهما عنصران من عناصر السخرية: "وهما من الانفعالات والغرائز التي يصعب تعريفها" وقال كاتب مادة "فكاهة" Humour في دائرة المعارف البريطانية: "وهي أي الفكاهة – إحدى صفات الساخر التي تسيطر عليه، وهي اصطلاح لا يأبى أن يعرف فحسب، بل بمعنى آخر ، تتعالى عن التعريف، ويمكن أن يعد من علامات النقص في روح الفكاهة أن تبحث عن تعريف للفكاهة"

وعلى هذا يكون توضيح السخرية بمحاولة وصف الفنان الساخر، واستبطان نفسه، ووصف وقعها على الإنسان، لا بمحاولة تعريفها بعبارات منطقية محددة.

***

أسباب السخرية:

والساخر هو ذلك المتعالي بنفسه عن المجتمع الذي يضحك منه أو من أحد أفراده لأسباب ترجع إلى حقده على المجتمع، لما يشعر به من نقص خلقي أو حرمان وينقد – بما منحه الله من موهبة السخرية – الأفراد أو المجتمع لإخفاء هذا النقص.

وقد ترجع إلى عداوة بينه وبين الشخص الذي ينقده لسبب من الأسباب التي تنجم عن الاحتكاك الدائم بين الناس، لغرض الانتقام.

وقد ترجع إلى تعالي شخص ناقص لا يحس ما فيه من نقص، فيضطر الأديب الساخر إلى أن يرده إلى صوابه أو إلى منطقه، كما يقول برجسون ويحاول حينذاك أن يبحث عن عيوبه فيضخمها ويكبرها . ويجعل منها بفنه أداة للضحك، وقد صدق أدلر حينما قال: "البغض والانتقام هما الشيطانان التوءمان اللذان يولدان السخرية."

وقد تتولد عن تعالي الشخص الساخر نفسه، ولشعوره بالغرور، فهو لا يفتأ ينقد ما في المجتمع من نقائص أو مفارقات ولذلك قال العقاد:

" ... فالعبث والغرور بابان من أبواب السخر، بل هما جماع أبوابه كافة".

وقد تكون نابعة من حساسية الناقد نفسه، فهو يكون ذا عين بصيرة نفاذة: يحس نقائص المجتمع، ثم يكون ذا روح مرح ضاحك يتناول العالم وما فيه تناولا بأساليب السخرية المختلفة، يقصد من وراء ذلك الإصلاح، وفي طيات ذلك الإضحاك، أو يقصد معالجة هذه الحساسية- إن صح هذا القول- لأن الحساسية مرض، قد يتناهى حتى يتعب صاحبه فيجعله لا يرضى عن شيء في الحياة، ويهديه الإحساس بوجوده الطبيعي وحب البقاء، إلى الفطنة لهذه الوسيلة في علاج نفسه، أو التنفيس عما يشعر به، ولذلك قال جوته الشاعر الألماني قولته المشهورة: "السرور يولد القوة". والناس في الحقيقة ينتهجون إحدى سبيلين في موقفهم من الحياة: إما أن يستبد بهم الغضب إلى النهاية، وإما أن يحولوا هذا الغضب إلى سخرية من الناس. وقد حاول آدلر أن يرجع السخرية أو يحللها – كانفعال مركب – إلى الغرائز البسيطة التي تتركب منها، فقال: "هي خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز: فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز ، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، بعثت فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا. ولا يخلو هذا من عنصر الزهو، لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها".

وقد ترجع الرغبة في السخرية من الغير إلى استعداد الفنان المزاجي الذي يكون ذهنه مهيئاً دائما إلى التعريض بالغير، والسخرية من الناس، مع انتفاء دافع شخصي معين، يدفعه إلى ذلك. ويمكن أن يصل حد هذا الدافع أو الوازع إلى أن يكون الشخص نفسه ميالا إلى الشر بطبعه، يميل إلى إغاظة الناس والتشفي منهم، لضعة أصله ومحاولة الانتفام من الناس كرها وحقدا، وهذا متأصل في الطفولة الانسانية حينما نرى بعض الصبية يقذفون الحيوانات بالحجارة أو يعتدون عليها من غير ما رحمة أو شفقة، لغير سبب ظاهر. ونرى بعض الناس قد تأصل فيهم الميل إلى المشاكسة وجرى في طبعهم إلى حد مضايقة غيرهم، والشعرو باللذة حينما يرون غيرهم يتألمون، وأوضح مثال على ذلك "الحطيئة" في الأدب العربي و"برناردشو" في الأدب الانجليزي، فقد كان الأول مغموز النسب محروم الميراث، لقى بين القبائل، ونشأ الثاني في بيئة اجتماعية منحلة: فكان أبوه يدمن الخمر ولا يحفل بشيء، وإذا أصيب بكارثة أو محنة، رفه عن نفسه بالضحك والسخرية، كما أن أمه تركت زوجها، وعاشت مع معلم الموسيقى دون أن تحفل بمهام البيت، ودون أن تلقى بالا إلى شئون الزوجية.

***

6- مقومات السخرية:

ترتبط السخرية في أعماقها بالمجانة، التي يمكن أن تكون صنو "اللامبالاة" لأن الساخر يجب أن يكون ماجناً – ولو في أعماقه – ويجب أن يكون لا مباليا بمن أمامه، وإلا ما استطاع أن يجرؤ تلك الجراءة، وأن يضحك منه بالتقليد والمحاكاة، أو بالحركات، أو بالألفاظ (في فن الأدب) أو بالرسم (من ناحية فن الكاريكاتور). ولقد عَدّ أدلر المجانة – حين محاولته تحليل العواطف إلى الانفعالات البسيطة التي تتركب منها – عاطفة تتركب من :الزهو ، والمنافسة، والغرور، والاعتداد.

قال: "المجانة أساسها الانفعال المسمى بالزهو مقترنا بالاعتداد بالذات، ولا نزاع في أننا نحس أننا أسمى من الشخص الذي يثير فينا المجون، وإن كان عنصر الدهش أيضاً عاملاً من العوامل التي تبعث على الضحك والمزاح، كما تتطوى المجانة على عنصر المنافسة، وأدخل ما تكون النكتة الطيبة على مشاعرنا حين نتغلب على أصحابنا، ونتفوق بها على أهل مودتنا".

وكما أن الساخر يجب أن يكون قوى الأعصاب، يحمل في طياته روح – اللامبالاة، أو المجون، كذلك لا بد له من أن يكون على قدر كبير من الذكاء وقوة المخيلة أو الخيال الهازل الذي يمكنه من اقتناص أو ابتداع الصور النادرة التي يستطيع بها إغاظة خصمه من جهة، وإضحاك نفسه والناس منه، من جهة أخرى، ولذلك ارتبط معنى الذكاء بمعنى الفكاهة في لفظه wit الانجليزية.

والحق أن الإنسان الذي حرم الذكاء لا يستطيع أن يدفع عن نفسه غائلة الأعداء المعتدين، فيأخذ في كبت شعوره بالضيق والكراهية والألم، حتى يخلخل – أو يكاد – أعصابه، كما حدث لبطل رواية "مرتفعات وزرينغ" المشهورة في الأدب الانجليزي.

أما إذا كان على جانب من الذكاء والفطنة في تخير الإجابة عما يسدد إليه من سهام النقد أو التحقير والازدراء، وكل ما يثير الغضب والألم والحنق بكلمات لاذعة فكهة، فإنها تسري عنه من جهة، وتفعل فعلها في عدوه أو خصمه من جهة أخرى، وتشيع فيما حولها جو المرح الذي يؤمن الشخص الضعيف من غائلة المعتدي، فتخف وطأة غضبه – ولو إلى حين – بسبب السخرية.

ولعل من أسباب ارتياح الساخر إلى نجاح سخريته، وإلى أنها سلاح أقوى من "السب" أو الضرب أو العراك، أن هذه الوسائل البدائية السالفة الذكر وسائل الإنسان الضعيف الحيلة الذي ينتقل غضبه وشيكاً من الإحساس إلى العضلات بطريقة بدائية بسيطة تشعر وتدل على انهيار الشخص النفسي لما حدث له من خصمه، أما الساخر الجلد – الذي يملك نفسه عند الغضب كما قال الحديث الشريف – فيضحك منه لإشعاره بأنه أقل من أن يفعل به ما يسبب إيلامه. ولذلك تمدح العرب قديما بالتجلد كما قال الشاعر:

وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولذلك وصلت قوة أعصاب برناردشو وكبرياؤه إلى أنه كان يتحدى الموت وأنه كان يقول:
لن أموت قبل أن أبلغ المائة من عمري!

ظناً منه أنه – بسلامة أعصابه- التي كان يريحها أولاً فأولا بالتنفيس عن نفسه بسلاحه الرهيب وهو السخرية، يستطيع أن يحتفظ بصحته وبنشاطه حتى يبلغ من عمره المائة عام.

وأي رجل أقوى من هذا الساخر الأيرلندي الذي رد على تلك المرأة الانجليزية التي جاورته عرضاً في القطار، ولم تكن تعرفه، فسألته: أأنت إنجليزي؟ فرد عليها ساخراً: لا ، إنني إنسان.


وجلس يوماً في مأدبة عشاء إلى جوار فتاة جميلة، فدار بينهما حديث قالت خلاله الفتاة للفيلسوف الايرلندي:
- لو تزوج رجل ملك – يا مستر شو – بامرأة مثلي، لكان لنا – بلا شك – أذكى الأبناء وأجملهم.
فما كان من برناردشو سوى أن رد عليها بقوله:
ومن يدري يا آنستي، فربما ورث أبناؤنا حظئ من الجمال، وحظك من الذكاء !! - السخرية في البلاغة العربية:

إن الموضوع الذي نبحثه الآن يمس أكثر ما يمس – من العلوم العربية – علم البلاغة ، ولذلك سأحاول أن أدرس نصيبه من عناية البلاغيين القدامى والمحدثين وإلى أي حد فهموا كلمة "سخرية" أو مترادفاتها، وإلى أي حد استعملوها.

***
فإذا بدأنا البحث في تاريخ الكلمة نفسها – أو مرادفاتها – وجدنا أن النصوص الجاهلية التي ذكرت فيها قليلة جدا وأقدم ما يعتمد عليه في ذلك الوقت هو القرآن الكريم: إذ ذكر جميع المترادفات تقريبا التي تعنينا في هذا الموضوع: سخر ، هزئ ، ضحك. ولم يكن نصيب هذه الكلمات من كثرة الاستعمال في الأدب الأموي بأحسن منها في الأدب الجاهلى، فنرى الكميت يقول في إحدى الهاشميات:

يعيبونني من خبثهم وضلالهم *** على حبكم ، بل يسخرون وأعجب

وأقدم كتاب أدبي ذكرت فيه هذه الكلمة هو ترجمة ابن المقفع لكليلة ودمنة في أوائل العصر العباسي، إذ ذكرت هذه العبارة على لسان الملك وكان يعني بها معناها الأدبي: "إنك لتسخر بي يا إبلاد".

أما من الناحية النقدية التي تعنينا، فنعثر على الكلمة في طبقات ابن سلام إذ يرد فيه هذا النص: "فكان من الشعراء من يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستهتر بالفواحش ولا يتهكم في الهجاء، ومنهم من كان يبغى على نفسه، ويتعهر، ومنهم امرؤ القيس والأعشى، وكان الفرزدق أقول أهل الإسلام في هذا الفن، وكان جرير – مع إفراطه في الهجاء – يعف عن ذكر النساء، كان لا يتشبب إلا بامرأة يملكها. نرى فيه كلمة "تهكم" التي تعتبر صنوا لكلمة سخرية أو مرادفة لها، ولكن معناها في هذا النص مبهم إلى حد ما: إنها لم ترد في النصوص الجاهلية بالمعنى الصريح المفهوم من كلمة سخرية، ولم تذكر مرة واحدة في القرآن الكريم على الرغم من أن أخواتها من الكلمات الأخرى المرادفة لها قد ذكرت في عدة مواضع منه، وإذا حاولنا أن نعرف ما يوحي به النص من معناها، وجدنا أنه معنى أخلاقي أكثر مما هو فني أدبي، يدل عليه ما قبله وما بعده من ألفاظ، وما تحمله تلك الألفاظ من معان: يتعفف، لا يستهتر بالفواحش ، يتعهر، يعف. إذن فالكلمة ذكرت بدد الهجاء البعيد عن الفحش، والروح المحيطة بها روح أخلاقية بحتة ... أي أنه يمكن أن يفهم من كلمة "التهكم" الإغاظة بذكر الفعل الفاحش أو العورات أو السباب الخلقي أو ذكر النساء ورميهن بالفاحشة صراحة كقول – سويد بن أبي كاهل في هجائه بني غبر:

من سره .... بغير ما *** فالغبريات على طحال

ويؤيد ذلك ما ورد عن امرئ القيس وفحشه في معلقته واستهتاره وكذلك ما عرف عن الفرزدق الذي قال عنه جرير: "تدليت تزني من ثمانين قائمة".

ويمكن أن يدخل "القول بالفاحشة والهجاء بها، في موضوع "التهكم" ولكنه لا يعني "طريقة التهكم وأسلوبها" تلك الطريقة التي تميز "التهكم" كأسلوب أكثر مما تميزه كموضوع، لأن الهجاء والتهكم تقريبا – وإلى حد كبير – يشتركان في الموضوع، ولا يشتركان في الطريقة التي يتناول كل منهما هذا الموضوع بها.

هذا من ناحية تخريج النص أو تحليله ، فإذا قرأنا تعقيب أبي عمرو ابن العلاء على قول زهير:

فتغلل لكم مالا تغل لأهلها *** قرى بالعراق من قفيز ودرهم

استطعنا أن نستبعد معنى "التهكم" الأسلوبي الذي يعنيه ابن سلام في النص، قال أبو عمرو بن العلاء تعقيباً على بيت زهير: هذا منه تهكم وكيفما كان الأمر، فلا نستطيع أن نفهم من النص أكثر مما توحي به العبارة برمتها، وكذلك نستطيع أن نقول إن الكلمة كانت ولا شك مفهومة معروفة عند الجاهليين والإسلاميين، ولكنها من الناحية النقدية، كانت قليلة الاستعمال بدليل عدم إيرادها كثيرا في الأحكام النقدية أو في التعليق على الأبيات في كتب الأدب أو النقد.

وبسبب ميل الجاهليين – ومعهم الإسلاميون الأوائل – إلى التعبير لنادى فإن الزبرقان لما غضب من الحطيئة حينما سخر منه قائلا:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى

وعرض الأمر على حسان بن ثابت، قال: "لم يهجه بل سلح عليه". وفي رواية: "بل ذرق عليه". وهذا يدل على فهم الجاهليين لقوة أثر السخرية ولو أنهم لم يعبروا عنها التعبير الذي تستحقه، بدليل أنه شبهها بالسلح".(1)

وأقدم من تعرض للموضوع تعرضاً ما، هو ابن المعتز إذ ذكر في كتابه "البديع" أنواع البديع الخمسة التي عرفت منذ الجاهلية في رأيه ثم ذكر "صنوفا ثانوية" أطلق عليها كلمة "محسنات" ومنها: الاعتراض والالتفات وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والتعريض وحسن التضمين والهزل الذي يراد به الجد. وقد عثر عليها ابن المعتز وحده، وله هذه المصطلحات. وإن تأكيد المدح بما يشبه الذم والتعريض والهزل الذي يراد به الجد لتدخل ضمن صيغ السخرية، ولكن ابن المعتز يعتبر هذه الصوف مجرد محسنات، ولا يحاول أن يتناولها من زاوية الهجاء الضاحك أو غير المباشر، وإن كان يقترب مما نحن بصدد البحث عنه حين يذكر النوع الأخير من المحسنات، وهو الهزل يراد به الجد. ومن عجب أن النقاد في كثير من الأحيان يفطنون إلى شدة قوة السخرية وعنف أثرها إلى حد أنهم ينعتون الكاتب المولع بها بعبارة "روح السخرية تسيطر عليه أو على كتابته" ويقرنون لفظة السخرية بـ "روح" لعنف أرها المعنوي والشعوري الذي يشيع في الساخر والسُّخرة معا، ولكن ابن المعتز لا يحاول الكلام عنها أو إدخالها في "البديع" كما سماه متضمنا الاستعارة التي هي إحدى الأردية الزاهية التي ترتدي بها "السخرية".

وقد تبعه بعد ذلك مؤلف كتاب نقد النشر فقسم الشعر العربي إلى مديح وهجاء وحكمة ولهو، والظاهر أن القسم الأخير هو ترجمة للكلمة اليونانية Comedia التي هي أحد قسمي الشعر الاغريقي المسرحي، والكوميديا عند اليوناني كانت تستخدم أسلوب السخرية، ولكن ليس معنى هذا أن مؤلف نقد النثر كان يفهم الكوميديا اليونانية على حقيقتها إلى حد أنه يعني بكلمة "لهو" قسما من أقسام الشعر اشتمالها على السخرية، بل أغلب الظن أن يقصد بها الفكاهة أو ما كان يسمى وقتذاك "بالمزاح".

....

أما في العصر الحديث، فمبلغ علمي أن الأستاذ عباس محمود العقاد كان أول من قرأ المؤلفات الغربية، وحاول الكتابة لأول مرة عن ملكة السخر عند المعري، وقد صدرها بهذا السؤال: لم يسخر الإنسان؟ وكان بدؤه الكتابة في الموضوع سنة 1902 في "خلاة اليومة" ثم كتب عدة مقالات نشرها في كتابه مطالعات. ثم كتب الشيخ عبد العزيز البشري مقالا عن "مرد النكتة" سنة 1927 عقب عليه العقاد بمقال طريف عن رأيه في النكتة ثم جمع آراءه في الضحك والسخرية وما يتصل بهما في كتابه "جحا الضاحك المضحك (http://al-mostafa.info/data/arabic/nc/alaqaad-goha-www.al-mostafa.com.pdf)" وصدره بمقدمة طريفة عن النكتة المصرية في أثناء كلامه عن طبيعة الأمة المصرية في كتابه "سعد زغلول" فقسم النكتة إلى "نكتة دعابة ونكتة تهكم".

وكتب بعده المرحوم الدكتور عبد اللطيف حمزة مقدمة لكتابه "حكم قراقوش" تحدث فيها عن المزاح أو الهزل Comipee والفكاهة أو التندر Humeur واللذع أو التهكم Ironie وقد ذكر فيها أمثلة غير قليلة من الأدب الأجنبي والأدب العربي وحاول محاولة لا بأس بها التعريف بكل مصطلح مما سبق، غير أنه لم يترجم المصطلحات الأجنبية الفنية ترجمة دقيقة فإن التندر وهو الاستهزاء والسخرية غير ذكر النوادر والفكاهات الذي يعنيه الاصطلاح اللاتيني Humour وكذلك فإن المزاح لا يمكن أن يوضع ترجمة لكلمة Comipuv وللدكتور حمزة تكملة لكتابه السالف أصدره سنة 1954 بعنوان: "ابن مماتي" أضاف إليه كثيرا من السخريات المختلفة في موضوعات شتى في الآداب الأجنبية.

ولقد أفرد الأستاذ أحمد عطية الله الضحك بكتاب خاص أطلق عليه "سيكولوجية الضحك".

وألف الدكتور شوقي ضيف كتابه "الفكاهة".

وظهر في نفس العام كتاب "كتاب سيكولوجية الفكاهة والضحك" للدكتور زكريا ابراهيم.

ثم صدر في سنة 1960 كتاب "أسلوب التهكم في القرآن الكريم".

وأخيراً صدرت مجلة الهلال عددا خاصا عن "الفكاهة" سنة 1966 .




(1) وما زلت أعجب لتظاهر عمر رضي الله عنه بأنه لم يفهم القوة الكامنة في بيت الحطيئة مع أن السخرية كانت واضحة ولم تكن شيئاً جديداً على العرب أو على الطبيعة البشرية، ولكن عمر – ذا العقلية القضائية – لم يجد فيها دليلا ماديا يدين به الحطيئة، ولذلك استدعى خبيرا في فهم الشعر. وهناك عدة تعبيرات لعمر في هذا الشأن: فيقال إن عمر قال: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبه _ديوان الحطيئة ص 207 ) وفي طبقات الشعراء لابن سلام 98 . فقال عمر لحسان: ما تقول؟ أهجاه؟ وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان ، لكنه أراد الحجة على الحطيئة . وفي موضع آخر: فقال له عمر: ما أعلمه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟.




8- أساليب السخرية:

أما وقد انتهينا من محاولة تعريف كلمة "سخرية" وموضوعها في البلاغة العربية، فلنحاول أن نعدد أساليبها المختلفة ، أو أنواعها.

وعلينا قبل البدء في ذلك أن ندرس مجالها الحيوي الذي تنبع فيه وهو الفكاهة أو ما يضحك.
والمضحكات تنقسم من ناحية منبعها إلى قسمين:

أحدهما : يكمن في الطبيعة كالنبع الذي يتفجر من الأرض حيا متدفقا ويتخلق حينذاك في الفرد، وفي الظروف المحيطة به، وفي كلماته وفي طبعة، وفي حرفته.

وهذه العناصر أو بيئات الضحك السابقة: يضحك منها الناس، ويفطنون إلى وجودها بسهولة ، من غير حاجة إلى وسيلة لمعرفتها أو خلقها (أعني ابتكارها) ويدركونها بما فيهم من صفة طبيعة تسمى "إدراك الفكاهة".

وثانيهما: يصنعه الناس أو يحاولون أن يصنعوه، وليس كثير منهم بمستطيع ذلك وإنما هم فئة خاصة يسرى في كيانهم استعداد خاص: في لغتهم ، أو في شكلهم، أو حركتهم، ويصطنعون لذلك أدوات مختلفة كالملابس المختلفة أو من لديهم المقدرة على إرسال النكتة أو ارتجالها ويقال إن لديهم إحساسا فكاهيا وهو ما نسميه تجوزا خفة الظل أو خفة الدم.

والفريق الثاني من المضحكات إما أن يهدف إلى الإضحاك فحسب وحينئذ يطلق عليه: الفكاهة أو المزاح أو الهزل.
وإما لنقد الناس في قالب مضحك أو للسخرية بهم ويطلق على هذا النوع التندر أو العبث أو اللذع أو التهكم أو الاستهزاء.

وللضحك سمة واضحة يكشفها الذهن بين الأفكار: كالتناقض العقلي، أو الاستحالة المحسوسة وما إلى ذلك، وهي تعريفات إذا انطبقت فعلا على جميع أشكال المضحك، فإنها لن تقول لنا أبدا: "لم يضحكنا المضحك".

ولعل الدافع إلى السخرية: هو محاولة المجتمع أن يجعل الشخص يتلاءم مع الحياة الاجتماعية: فإن لم يتلاءم معها فقد يكون ذلك راجعا إلى تصلب في الجسم أو تصلب في الفكر أو تصلب في الطبع.
إذاً المجتمع يقتضي منا انتباها دائم اليقظة، يميز حدود الموقف الراهن، وشيئا من المرونة في الجسم والفكر، تجعلنا قادرين على التلاؤم مع هذا الموقف، فالتوتر (التصلب) والمرونة هما القوتان المتكاملتان اللتان تستخدمهما الحياة: فإذا أعوزا الجسد كانت أنواع الرزايا، وكانت العاهات والأمراض كالأحدب الذي تعود ظهره الانحناء السيء وداوم هو على هذه العادة نتيجة عناد مادي أي نتيجة تصلب.

وإذا أعوزا الفكر: كانت شتى درجات الفقر الروحي وشتى أشكال الجنون، وأعظم مثل لذلك شخصية الذاهل دون كيشوت التي ابتدعها سيرفانتس، تلك الشخصية التي علق فكرها بالأوهام وعاشت فيها.

وإذا أعوزا الطبع، كان فقدان التلاؤم مع الحياة الاجتماعية وهو أصل الشقاء، وسبيل الجريمة في بعض الأحيان: ونضرب مثلا أو أملة لذلك بشخصيات: البخيل والمقامر والغيور والخجول.

فالمجتمع يقتضي منا دائما مرونة في الجسم ومرونة في الفكر ومرونة في الطبع ومادام المجتمع لم يصب بأذى، فإنه يجيب على التصلب البسيط بحركة بسيطة ألا وهي الضحك، فالمجتمع يود أن يزيل بعض هذا "التصلب" في الجسد والفكر والطبع حتى يوفر لأعضائه أكبر مرونة ممكنة وأعلى اجتماعية ممكنة، فهذه الصلابة هي: المضحك، والضحك: قصاصها.

***
إذن فالمضحكات التي يبتدعها الفنان أو المضحك أو الساهر تكون منتزعة من فرد متصلب منحرف أو من ظروف مختلفة محيطة به تتكرر أو تنقلب رأساً على عقب وتأبى بعكس المنتظر أو يتدخل بعضها في بعض كما إذا تبادل ضدان كشيخ وقسيس أو امرأة ورجل بعض ملابسهما وهذا ما يسمى بتداخل السلاسل، أو ينتزع من الكلمات التي تضحك بذاتها لرنينها الصوتي الخاص بها أو بوضعها متجاورة بصورة مضحكة وكذلك ينتزع المضحك من الطبع المنفصل عن البيئة المحيطة به أو البعيدة عنها، وأخيرا ينتزع من الحرفة التي يمتهنها الانسان في حياته وتسيطر عليه ألفاظها ومقتضياتها في جميع أحوال حياته الاجتماعية، حتى ليبدو هذا الإنسان المضحك كأنه ذاهل داخل إطار حرفته كل الذهول، وسيطرت عليه كل السيطرة فترى أن الذي ينطلق دائما ليس صديقنا فلانا بل محترف هذه المهنة الذي رانت عليه عقليا وصوتيا.

***
والصور الساخرة أو صور الفنان الساخر يبتدعها بعد إضافة روحه أو إعمال خياله الهازئ أو الضاحك فيها، فيصبغها بصبغة فنية جديدة، أو يجعلها تنبض بنبض يلفت نظر من لم يكن ملتفتا إليها أو تزيد لفت نظره إليها: مثل الفنان الذي يرسم منظرا جميلا ويضعه في لوحة أو إطار، ويجعله أمام الأعين على الدوام: إذ ربما كان هذا المنظر الطبيعي موجودا في الطبيعة الحية أمام الناس، ولكنهم يمرون عليه مر الكرام، أما رسم الفنان إياه، فقد لفت أنظارهم إليه – وبخاصة حينما ب فيه نفسه أو ما نسميه عبقريته أو شعوره أو إحساسه بهذا المنظر، فعمل الفنان أو ابتداعه شيئا جديدا هو الطبيعة الحية مضافا إليها جهد النفس البشرية أو العبقرية المعبرة.

كذلك الساخر: فهو يضيف نفسه أو شخصيته أو فنه أو عبقريته إلى هذه الصورة المسخور منها، وبذلك يخلقها خلقا جديدا، وهو ما يسمى بالابداع أو الخلق: فهذا رجل كسيح يمشي أمامنا. ربما عطفنا عليه لعاهته، ولكننا نسمع عنه أنه مجرم يفرض إتاوات على الناس، ويرتكب حوادث إجرامية ضد المجتمع فيتناوله الساخر، ويحيله من صورة صماء إلى صورة متحركة مضحكة، تجعلنا نضحك منه ونهزأ به فنتشفى به بعد أن كان يبعث في أنفسنا الرثاء أو الخوف أو كليهما.

وهكذا يصنع الفنان من المواد الأولية – إن صح هذا التعبير – بإطلاقه على بعض النماذج البرية وغيرها.. يصنع منها مواد مركبة منها تركيبا لا يقدر عليه إلا الساخر، وينتهي بها إلى الصور والحوادث والحركات والنفسيات المضحكة... وهو لا يضحكنا من الجسم كشيء مادي فحسب، بل كظرف أو وعاء فيه روح معوجة أو شاذة أو غير مستقيمة، لأن الجسم – ميتا – لا يمكن أن يضحك أو يهزأ به، لأنه أصبح في دنيا العدم بالنسبة لنا كأحياء متحركين ، تحركنا وتسيطر علينا روح ما داخل أجسامنا.
*** صور السخرية أو أساليبها :

أول صور السخرية وأقدمها في تاريخ البشر وأكثرها انتشارا بين العامة هي السخرية "بالمحاكاة" في الكلام والمشي والحركات الجسمية وأنواع السلوك المختلفة، أي في السمات البارزة التي تميز شخصية ما من الشخصيات كأسلوب ما من أساليب الكناية التي يمتاز بها كاتب من الكتاب أو خطيب من الخطباء أو شاعر من الشعراء في قصيدة ما من قصائده كما فعل حافظ ابراهيم معارضا شوقي في قصيدته المشهورة "عن أي ثغر تبتسم" وهذا النوع من تقليد القصائد وإحالة الجاد منها بمعانيه إلى هزلي أو مضحك منتشر في الآداب الأوربية أكثر من انتشاره في الأدب العربي.

والسبب في أن "التقليد" يكون مدعاة إلى السخرية هو أن الساخر المقلد ينقل شخصية المقلد برمتها ويجعلها رداء له يلبسه ويتماجن به كيفما يشاء فكأنما هو يمسخه وكأنما جعل شخصية الألثغ متبلورة أو مركزة في لثغته. والفنان لا يكتفي بمجرد التقليد كعامة الناس أو الأطفال بل هو يولد منها صوراً متنوعة كثيرة كلها مشتقة من اللثغة أو من صورة هذا الألثغ وروحه العام.

وقد ذكرت دائرة المعارف الأمريكية (الأمريكانا) هذه الصورة كصورة من أقدم صور السخرية عند الهمج والمتوحشين.

أما المناداة بالألقاب فهي من أقدم الصور السهلة الساذجة في السخرية وتستعمل فيها أسماء الحيوانات كألقاب كقولهم للسمين يا درفيل ، ثم استعمال هذا اللقب.. فيما بعد .. اسما يطلق على هذه الشخصية وتعرب به، وكذلك استعمال الصفات المعكوسة وهي عكس ما يتصف به الشخص حقيقة كألقاب ثم أسماء .. تتكرر كثيرا في صور منوعة ومناسبات مختلفة حتى يلصق هذا الاسم بهذه الشخصية كإطلاق صفة الهزيلة النحيفة على المكتنزة والسبع أفندي على النحيف، ويمكن استعمال ألفاظ أجنبية لزيادة الهزء بإدخال عنصر الغرابة كاستعمال (مدموازيل) للعجوز الطاعنة في السن وكذلك استعمال أسماء الرذائل وإضافتها إلى من يدعون التمسك بأهداب الفضيلة كإطلاق الشيخ متلوف – هزءا وسخرية – على الفاسد، والأمين على اللص... وإنما لا نحس جرس السخرية من أحرف فحسب بل من الجو المحيط بها، وأعني به الجو الاجتماعي الذي يفهمه السامع أو القارئ: فالكفار قد هزئوا – زمن الردة – بأبي بكر فسموه بأبي الفصيل.

ومن أقدم طرق السخرية واكثرها شيوعا السخرية بالصوت، وتلوينه ورفعه وخفضه وإعطائه نبرات خاصة معروفة يفهمها السامع غالبا ويعرف صفاتها التي لا يمكن أن ينقلها القلم إلى الطرس. وكذلك السخرية بانفراج أسارير الوجه وتحريك عضلاته، أو بهز الرأس أو الكتفين أو بالغمز بالعين...

وقد يكفي للسخرية بالشخص أن تنظر إليه – صامتا – ثم تأخذ في إدامة النظر إليه وأنت تبتسم ابتسامة السخرية أو تضحك ضحكة السخرية. وأتقد أن هذا النوع أقدم أنواع السخرية، ولكن لا يمكن إثبات ذلك نظرا لأنه لا يسجل على الورق كتابة أو على الحجر نقشا.

أما النوع الرابع فهو: معالجة الشيء الحقير كأنه عظيم، أو ما يسمى في الأدب العربي "الذم بما يشبه المدح" ويدخل فيه أيضاً تجاهل المعارف وكل ذلك وغيره يتسق وينتظم في عبارة طويلة لا تستمد تأثيرها من ألفاظها : لفظة بلفظة على حدة بل من العبارة برمتها: ونضرب مثلا على ذلك بمخاطبة عالم يستهزئ بجاهل قائلا : قل لي يا سيدي الأستاذ، أو أخبرني أيها العالم الجليل أو مخاطبة القبيح قائلاً: القمر يغار منك.

أما النوع الخامس فهو: معالجة الشيء العظيم كأنه حقير: ويمكن أن يكون طريقة من طرق الاستهزاء، كما شبه يتلر أماكن العبادة المسيحية ساخراً بمصرف يذهب إليه الناس ليدفعوا شيئاً ويأخذوا شيئاً.

ومن أنواع السخرية: تجاهل العارف أو التباله: وهي الطريقة المشهورة التي أثرت عن سقراط.

يسأل الأب ابنه الراسب في الامتحان – وهو يعلم برسوبه – أنجحت في الامتحان؟

أما التعريض فهو: من أشهر أنواع السخرية في الأدب العربي، وجمع الثعالبي في كتابه "الكناية والتعريض" طائفة من الأمثلة، كذلك الذي دار بين معاوية بن أبي سفيان والأحنف بن قيس، إذ سأل الأول الثاني قائلا: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال الأحنف: هو السخينة يا أمير المؤمنين !!

وقد أراد معاوية قول الشاعر:

إذا ما مات ميت من تميم *** فسرك أن تعيش فجيء بزاد
بخبزٍ أو بتمر أو بسمن *** أو الشيء الملفف في البجاد

وأراد الأحنف بقوله : السخينة، أن قريشا يأكلونها ويعيرون بها وهي أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة وإنما تؤكل في كلب الزمان، وشدة الدهر، وقد سموا قريشا سخينة تعييرا لهم بذلك.

وكان عبد الأعلى بن عبد الرحمن الأموي عتب على بعض ولد الحارث فقال له معرضا بما قال حسان:

كما نيط خلف *** الراكب القدح الفرد

فقال:

إخال بالعم وبالجد *** مفتخرا بالقدح الفرد
الهج بحسان وأشعاره *** فإنها أدعى إلى المجد

وساير شريك بن عبد الله النميري يزيد بن هبيرة الفزازي فبرزت بغلة شريك، فقال له يزيد: غض من لجامها !
فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير!! فضحك ، وقال : ما ذهبت حيث أردت.
وإنما عرض بقوله : (غض من لجامها) بقول جرير المشهور:

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وعرض له شريك بقول ابن دارة:

لا تأمنن فزاريا خلوت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار

وبنو فزازة يرمون يإتيان الإبل.

ومن صور السخرية: التصوير المبالغ فيه (الكاريكاتوري) وهو وضع الشخص في صور مضحكة: كالمبالغة في تصوير عضو من أعضاء الجسم ومحاولة تشويهه إلى حد ما، بحي يجعل الشخص كأنه لا يدرك أو يعرف إلا بهذا العيب الذي جسده وكبره.

....

ولا يكتفي المصور الكاريكاتوري رساما او كاتبا بتصوير الشذوذ الخلقي، بل يتخذ من السلوك الشاذ مادة خصبة لسخريته: كالمجانين والبله والمفكرين ذوي الآراء الجريئة التي لم يألفها المجتمع، وكذلك شدة النسيان. وقد اعتمدت الكوميديا زمنا طويلا على هذه الظاهرة، فشاع في القرن السادس عشر ما كان يعرف بمسرحية كوميديا الأمزجة Comedy of Humours وفيها يعرض المؤلف شخصيات ذات عادات نابية تستثر الضحك لغرابتها.

وقد يكون التصوير مضحكا ساحرا بسبب الألفاظ ذاتها إذ هي التي تبعث على الهزء والسخرية لرنينها وتنافر حروفها، أو لأنها قوية التعبير عن نفسية الذي يصور أو يمسخ أو يحاول التعبير عنه.

ومن صورها: السخرية عن طريق التوريه أو (السخرية التراجيدية) Irony وهي العبقرية التي تجعل شخصا من الأشخاص يستعمل ألفاظاً تعني شيئا ما بالنسبة إليه، وشيئا آخر بالنسبة للنظارة العارفين بالحقيقة كمن يقول لأعداه مقدما إليهم طعاما مسموما: طعاما هنيئاً يا سادة.

ومنها : السخرية عن طريق الصور الملفقة المضحكة أو ما يسمى بالادعاء أو الدعاوي الكاذبة، ومنها اختراع النوادر والنكت وإضافتها إلى أغنياء الحرب ومحدثي النعمة والقرويين السذج الذين زاروا المدينة لأول مرة مثلا، فمن أمثلة السخرية بالقرويين والتشنيع عليهم أن قرويا زار القاهرة، فسأله زميل له مختبرا: على ذلك فأنت تعرف الترام والمترو! فأجاب القروي: كيف لا، وقد أكلت منهما كثيرا. وكذلك التندير "التشنيع" على الأطباء والمعلمين وغيرهم من ذوي الحرف المختلفة ومحاولة تسديد سهام النقد إلى ناحية من نواحي النقص التي عرفت عنهم.

وكذلك يهاجم الساخر الجبان والمتطفل والمتسول وكل العيوب الاجتماعية الأخرى بالمبالغة في وصفها واختراع الصور المبالغ فيها. وفي كتاب البخلاء للجاحظ أمثلة طريفة.

ومنها: مجابهة الشخص بعكس ما يتوقع، ومن ذلك سرعة الجواب الساخر، كتلك النادرة التي تروي أن صيادا رمى عصفورا فأخطأه ، فأراد ساخر أن يسخر به، فقال له أحسنت! فقال الصياد: أتهزأ بي؟ فرد عليه الساخر بسرعة: ولكنك أحسنت إلى العصفور!

ومن ذاك ما يحكى عن أحد الأمراء أنه أراد أن يسخر بالشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوجو، فقال له: ألم يكن أبوك خياطاً؟.
قال فيكتور : بلى .
فقال الأمير: ولماذا لم تكن خياطاً مثله؟
وبنفس الطريقة سأله الشاعر: وأنت أيها الأمير: ألم يكن أبوك مهذباً؟
فقال الأمير: بلى.
فقال الشاعر: ولماذا لم تكن مهذباً مثله؟

وقال في ذلك الأستاذ أحمد عطية الله "يحاول المستهزئ – في بعض الأحيان – إمعاناً منه في الزهو بنفسه – أن يدخل في روع الهزأة أنه حقاً ذو شأن وخطر، حتى إذا ما اعتقد هذا الأخير ما أوهم به" كشف المداعب عن حقيقته، فاختفت مسحة الجد من وجهه، وراح يضحك ساخراً من صاحبه الذي تذهله المفاجأة حتى يعجم عليه القول.

ومن تلك الصور الأدبية : التهكم.. وهو ذكر أشياء أو أباطيل لا يعتقد بها الشخص وفي نفس الوقت يتظاهر بالاعتقاد بأنها صحيحة، أو يذكرها في معرض التعجب من وجودها ومن ثم الاستهزاء بها.

وعلى كل، فالتهكم من صور السخرية الشفافة التي ليس من السهل تعريفها ولكنها تعرف بالذهن اللماح، قال النويري: والفرق بين التهكم وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد، وباطنه هزل، والهزل الذي يراد به الجد على العكس منه. كقول ابن الرومي:

فيا له من عمل طالح *** يرفعه الله إلى أسفل

وقال آخر : أصل الأمر في التهكم أن تقول قولا وأنت تريد ضده كقول النظام: ما بعد هذا الكلام كلام: فهو لم يقصد بهذه العبارة إلا ضدها، ظاهر كلامه الاعتراف بعلم المخاطب، ولكن باطنه تعريض بجهله.

وأكثرها ما يستعمل التهكم في الخطاب، فهو يغلب على الأحاديث حتى يكاد يكون لهجة ينفرد بها بعض الناس. ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر الجاهلي:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحساناً

أو قول زهير:

فتغلل لكم مالا تغل لأهلها *** قرى بالعراق من قفيز ودرهم

أو قول طه حسين:

قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو خرج فلان لأهل قريته عن بعض ماله، ليسقيهم ماء نقيا، لزال عنهم المرض، ولاستفاد زرعه من صحة أجسامهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو أعطف عليهم من ذلك! ألم تعلم أن المرض محنة، يثاب عليها المريض إن أحسن احتمالها ! وأن الصحة فتنة إن أساء الصحيح استعمالها، يعاقب عليها فهو (يؤثر) أهل قريته بالثواب، (ويعصمهم) من الفتنة!

ومن تلك الصور أيضاً: السخرية بالمفارقة (في الحوادث تسمى سخرية القدر) ويستخدمها الساخر بمهارة في القصص ، ومن أمثلة ذلك:

"دخل رجل على طبيب في عيادته فاعتقد الطبيب أن الزائر مريض يطلب علاجا، وأراد أن يوحي إليه بمقدار أجره في غير مساومة ، فعمد إلى التليفون، وأداره وراح يقول لمحدثه المزعوم:
نعم. أنا الدكتور (فلان): إنني مشغول جدا.. تسأل عن القيمة المطلوبة؟ إنها كما أخبرتك: أربع جنيهات .. وأنت تعرف هذا. حسن .. إلى اللقاء إذن.
ثم وضع سماعة التليفون، والتفت إلى الزائر متسائلا: ماذا أستطيع أن أصنع لك يا سيدي؟
فأجابه الزائر: لا شيء.. إنني موظف مصلحة التليفونات الذي طلبته لإصلاح تليفونك"!

والساخر لا يستخدم لغة مضحكة ، بل يترك الموقف للسامع أو القارئ لكي يضحك منه ما شاء له الضحك.
ومما شاع منها في الآداب الأجنبية: الجمل أو التعبيرات اللاذعة: وهي جمل تكون كالحكم السائرة أو المثل السائر وتتناول شخصا من الأشخاص أو مهنة من المهن بالنقد اللاذع المختصر ويكون في صيغة، "التعريف" وقد اشتهر كثير من أدباء الغرب بهذا النوع أمثال برناردشو الكاتب الايرلندي، وأوسكار وايلد الانجليزي.

فالأول يعرف المتشائم بقوله: إنه الرجل الذي يعتقد أن الناس أشرار مثله فيحقد عليهم لهذا السبب!!

ويعرف أدامسون الطفل بأنه قناة هضمية ينتهي طرفها بصوت مزعج، وطرفها الآخر بالفوضى!

ويعرف أحدهم الأستاذ الجامعي بقوله: "هو الرجل الذي يعلم تلاميذه كيف يحلون مشكلات الحياة التي حاول هو أن يتجنبها باشتغاله بالعلم !!

ومن أمثلة التعريفات الساخرة قول أحدهم عن الأمريكيين:

الأمريكيون أحرار لأنهم "يأخذون" حريات كثيرة!!

وقد يستخدمون طريقة المقابلة، بدلا من التعريف، كقولهم:

في بعض البلاد الشرقية لا يرى الزوج امرأته قبل الزواج، وفي بعض البلاد الغربية لا يراها بعده !!"

تحمر البنت القروية إذا خجلت، أما العصرية فتخجل إذا احمرت !!

كانت البنت قديما لا تجسر على تناول يد فتاها ، ولكن البنت حديثا لا تجسر على تركها !

وأخيراً التلاعب اللفظي: والأساس فيه هو محاولة المتندر أن يكسب الألفاظ معاني غير معانيها الواضحة. فإذا ما اكتشف السامع أن ما يقصده المتكلم هو هذا المعنى الغريب يسخر من فهمه الأول لمعنى الجملة، فيضحك، ويكون التلاعب اللفظي: باختصار الفكرة، أو بالإضافة إليها بحيث تخرجها عن معناها الأصلي أو بتبديل الكلمات المكونة لها، أو بنحت بعض ألفاظها أو بتقسيمها، أو بالعبث بإعجامها كأن ندعو من تسمى فاطمة الزهراء بأن نقول فاطمة الزعراء !

***

وبعد، فإن خيال الساخر في الحقيقة خيال مرن ، يتناول السخرة أو المسخور منه بالمداعبة والعبث واللعب ، كما يسلك القط مع الفأر قبل افتراسه، وهو لذلك يستخدم وسائل وأساليب متعددة في سخرة تتداخل كل منها بحيث لا يمكن إحصاؤها أو عدها، وهي معرضة دائما لابتكار العقول المبتكرة، بحيث لا يمكن للبلاغي حصرها في اصطلاحات ضيقة فمثلها كحروف الهجاء في اية لغة من اللغات: يمكن للإنسان اشتقاق آلاف الألفاظ منها، والتعبير بها عن آلاف الأحاسيس فتكون طيعة في يده يستخدمها كيف يشاء. وممن حاولوا إحصاء أنواعها المختلفة في الآداب الأوربية إيفان ابزار في كتابه Humour of Humour ؛ ولكني أرى أن لا جدوى من ذلك، بل يكفي معرفة أشهرها، والتعرض لما يجد منها أو ما يكون خاصا بأديب دون آخر، بالتحليل ومحاولة بيان أوجه الجمال أو العبقرية فيه.





صيغ السخرية:

والساخر حين يسخر، يعتمد كل الاعتماد على خياله العابث الذي ينتقي من صور السخرية ما يراه مسعفا له على إدراك غايته وهو التنكيل بخصمه أو الوصول إلى هدفه في اقتلاع رذيلة من الرذائل بفنه الساخر وهو في ذلك يرجع إلى طبعه وما جبل عليه: فمن الساخرين من يميلون إلى صيغ بعينها يختصون بها ويدور معظم سخرهم على هذه الصيغة ، ومنهم من يستخدم أغلب هذه الصيغ، ومرجعه في ذلك عقله الباطن الذي يهديه أو بعبارة أخرى يسيطر عليه كل السيطرة، فيملي عليه ما يريد ، ويوحي إليه بالصيغة التي تقتضي أو تلائم قوة الموضوع الذي يعالجه، وقد لاحظت عليهم ذلك ومنهم زميل لي كان يسخر دائما باستخدام صيغة المغالطة.. يخطئ في نطق كلمة ويدعي أنه يريد عكسها كالصحفي الذي يكتب تحت صورة أحد الزعماء – مدعيا الخطأ "وهذه صورة الكلب الذي فر من قفصه" ويكون هذا الزعيم مسافرا إلى بلد أخرى، ثم يكتبون تحت صورة كلب "وهذه صورة الزعيم العظيم (فلان) متأهباً إلى الرحيل عن وطنه، وهذه طريقة من أنكى الطرق إذا تخصص فيها الشخص وأتقنها بملاءمتها لذوقه وحسه وطبيعته من جهة، وكثرة تمرنه عليها من جهة أخرى.

وهناك شخص آخر تخصص في قول كلام مبتور يوحي إلى السامع بذلك أنه سيقول عبارة ما من العبارات حتى إذا ما اطمأن إلى أن السامع تأكد أنه سيقول مثل هذه العبارة قال هو عكسها وبذلك يسخر من السامع وكأنه كرة يلعب بها كيف يشاء.

وأروع درجة من درجات السخرية هي التي تعتمد على الإشارة اللماحة وتقوم على الإيجاز الشديد، ومما يذكر في ذلك محاولة أحد الصحفيين المصريين السخرية بأمريكا فرسم في مجلة آخر ساعة السفير الأمريكي مفكرا تفكيرا عميقا، وملأ الصفحة كلها – على اتساعها – بالصورة ثم كتب عنوانا صغيرا "صفقة الأسلحة". ولم يزد شيئاً على ذلك.

وأذكر أيضاً نادرة أخرى شاهدتها بعيني: أراد بعض الطلبة في إحدى حفلاتهم العامة السخرية بإحدى الطالبات وكان سلوكها محاطا بشيء من الريبة ، فوزعوا جوائز وهدايا على بعض حضور الحفل، وكان نصيبها أن قدموا لها في صمت: كوزا من الذرة وكفى.

وأراد بعض الطلبة السخرية بمدرس لهم يدعى "أحمد قتة" فما كان منهم إلا أن استدرجوه لكي يشرح لهم إحدى مسائل الحساب، فلما وافق ووضع يده في صندوق الحكك "الطباشير" لم يجد فيه إلا جسما أملسا ناعما، فلما أخرجه، وجده "خيارة" إشارة إلى اسمه!

وهكذا يكون الرمز والإيماء في السخرية أنكى من الإطالة ، وذلك لطبيعة السخرية التي تجافي الإطناب كل المجافاة إذ أنها نتاج العقول الذكية وتخاطب في الأغلب الأعم العقول اللماحة.

ومن صيغ السخرية التي يمكن تعدادها:

الاستفهام مثل: من أنت أيها الجبار العنيد؟ لمن ضؤل شأنه.

والأمر مثل: "ذق إنك أنت العزيز" والتهكم بالبخيل: ابتعد حتى لا تصاب مثلهم بالكرم!

والنهي مثل قول الحطيئة:

دع المكارم لا ترجل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وقول الشاعر:

لا تطلب المجد إن سلمه *** صعب ، وعش مستريحا ناعم البال

والتمني مثلما يقول القائل للقسيس السارق: "ليتك تمنحني بركتك"!

وقول القائل للعاجز: لعلك تستطيع أن تحل هذه المعضلة!!

والتوريه: كما جاء في الآية الكريمة حينما كان اليهود يقولون (راعنا) لكي يوهموا المسلمين أنهم يقصدون اشتقاقها أو معناها العربي، وهم في الحقيقة يهدفون إلى معناها العبري ونزلت الآية الكريمة: "لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا".

والمشاكلة: كمن أراد أن يداعب أو يهزأ ببخيل وعده شيئاً ثم أخلفه، ثم وعده بوليمة عظيمة، فيقول له:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه *** قلت : اطبخوا لي جبة وقميصا !!

وكثيرا ما استعمل أبو العيناء هذا الأسلوب مع بعض الحكام في عصره.

والمواربة: وهي في الأصل المخادعة والدهاء: وفي الاصطلاح أن يجعل المتكلم كلامه بحيث يمكنه أن يغير معناه بتحريف أو تصحيف.

والعكس، ويسمى القلب والتصدير: وهو أن تقدم جزءا في الكلام ثم تؤخره بأن تؤخر ما قدمت ، وتقدم ما أخرت، مثل قول أحدهم يسخر من صديق له غضب لمزاحه معه: ليس الضحك بداية سيئة للصداقة، ولكنه نهاية حسنة. وقد يدخل هذا النوع فيما يسمى "باللعب بالألفاظ".

وتجاهل العارف: وهو سوق المعلوم مساق المجهول لنكتة: كالمبالغة في المدح أو الذم أو التوبيخ. كما قال زهير:

وما أدري – وسوف إخال أدري - *** أقول آل حصن أم نساء ؟

وتأكيد الذم بما يشبه المدح: وتنبع السخرية منه من المفاجأة التي يفاجأ بها المخاطب المقصود بالذم أو السامع مفاجأة لم تخطر له على بال حينما يبدأ الساخر بأسلوب المدح ثم يختمه بأسلوب الذم مثل، أجمل شيء في صديقي: طول أذنيه!! وإنه يكرمنا دائما بانقطاعه عن زيارتنا !

وحسن التعليل: أو السخرية بمحاولة التعليل أو التظاهر بالتعليل تأييدا للمخاطب المسخور منه:

مثلما يقول أب لابنه كسر كوبا:
أعرف أنك كسرته لأنه مكث لدينا زمنا طويلا!!

والتضمين: ويسمى أيضاً الإبداع: وهو أن يضمن الشاعر كلامه شيئاً من شعر الغير مصراعا أو بيتا مع التنبيه على ذلك، إلا إذا كان مشهورا فإن شهرته تغني عن التنبيه عليه. مثل قول بعض الشعراء مخاطبا طبيبا كان ببغداد يدعى نعمان لا ينجح مريض على يديه:

أيا منذر أفنيت فاستبق بعضنا !! *** حنانيك ، بعض الشر أهون من بعض !!

والسخرية بألفاظ المدح: وهو أن يكون الهجو أو السخرية بالعبارات التي تستعمل في المدح مقرونة بما يصرفها إلى الهجاء كقول الحماسي:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا

والتصحيف: إما بوضع لفظة مكان أخرى بتبديل حرف يغير معنى الكلمة أو بوضع كلمة في غير موضعها، كمحاولة كاتب أن يسخر بطبيب بقوله إنه كتب تقريرا عن شخص متوفى وكان يعالجه وأخطأ وكتب اسمه أمام: "سبب الوفاة"

وبعد، فهذه بعض الصيغ التي تصاغ فيها السخرية، وليس من همي إحصاؤها إذ هي كالبحر العميق الزاخر بشتى الأحياء، أو هي دنيا واسعة لا يمكن حصر ما بين أطرافها ، كما يحاول البلاغيون حينما يحصرون أنواع البديع المختلفة أو غيره من أبواب البلاغة، وحسبي في ذلك التعبير عن رأيي أن أذكر كلمة "برجسون" عن هذا الشيء المسمى بالسخرية: "أخشى أن يكون هذا الجوهر اللطيف من تلك الجواهر التي سرعان ما تتحلل إذا عرضتها للضوء".






1- قدم السخرية ورسوخ قدمها عند الأوربيين:

للسخرية أو الميل إلى إثارة الضحك بواسطة الصور المضحكة جذور عميقة في الطبيعة البشرية، وهي من أقدم المواهب الفطرية التي مارسها الإنسان في مجتمعه البدائي غير المهذب، وولوع الإنسان بالضحك والهزء والفكاهة، وفطنته السريعة إلى كيفية إثارتها قد شملت البدائيين، وقد ظهرت بوضوح في علاقات بعضهم ببعض من قديم الزمن وحتى قبل أن يصقل الإنسان أدب أو فن، كان رئيس القبيلة البدائية يجلس في كوخ محاطا بالمحاربين من قبيلته، وكانوا يسلون أنفسهم ويتلهون بتناول أعدائهم وخصومهم بالهزء بهم: فكانوا يضحكون من ضعفهم ويتبادلون النكات بما يجنون فيهم من نقص أو تشويه، سواء كان هذا النقص عضوياً، أو في عقلهم وحيلتهم، ويطلقون عليهم ألقابا مضحكة، وهم يقصدون من وراء ذلك أن يهزأوا بهم بالألفاظ أو بأن يلفقوا عنهم الحكايات التي هي في عداد الأشياء التي تثير انبساط أساريرهم وضحكهم.

ثم انتقل الإنسان القديم إلى مرحلة تالية في هذا الفن: بأن بحث عن وسيلة يكسب بها هزءه صورة أكثر بقاء وخلوداً، فأخذ يرسمها على الصحف المكشوفة، أو على أي سطح لين رسما ساذجا.

ثم عرف هذا الفن عند كثير من الأمم القديمة: المصريين والإغريق والرومان والهنود والوثنيين والمسيحيين. وقد وصلت آثار أدبية ساخرة عن أرستوفان أعظم مؤلفي الكوميديا الإغريقية كالضفادع وغيرها. وكان الكتاب الساخرون دائما رواد الحركات الإصلاحية في التاريخ فاشتهر سقراط منذ القدم بطريقته الساخرة وهي التباله أو ادعاء الجهل ومحاولة إثارة الموضوع الذي يتكلم في أو يناقشه بهذه الطريقة، وأصبح من ذلك الوقت علما على هذه الطريقة في هذه الفلسفة Socratic Irony أما هؤلاء الذين تقدموا النهضة الأدبية – ومن ثم الاجتماعية والسياسية – في أوروبا، وفتحوا عصورا جديدة في تاريخ شعوبهم بل تاريخ النهضة الانسانية فهم رابليه الفرنسي ( 1490 – 1550 ) وسرفانتس الاسباني (1547 – 1616 ) أما الثورة الفرنسية فقد قدم لها ومهد المصلحون الساخرون وعلى رأسهم فلتير 1694 – 1778 .


2- في الأدب الغربي:

وللسخرية عندهم في نقد المجتمع القدح المعلى: فها هو بترونيس ينقد المجتمع الروماني، ويحذو حذوه في القرون الوسطى رابليه وسرفانتيس، وقد حاول الأخير استئصال فكرة "الفروسية" التي كانت مسيطرة على أوربا في ذلك الحين، وينهج نهجه بتلر الذي سخر من المتزمتين، ورينيه الفرنسي الذي كان يسخر من الذين يعنون بقواعد اللغة والعروض عنايه تطغى على الموضوع، أما موليير فقد نقد أكثر صور المجتمع التي سادت عصره: كتعالم النساء، والبخل والنفاق، والأطباء وغيرهم. وأخيرا يطل علينا من عل شيخ الساخرين الاجتماعيين "شو" الذي نصب نفسه لهدم أكثر التقاليد البالية، فكانت لسخريته غاية هي إصلاح المجتمع.

وعرفنا مما سبق أيضاً بعض صور السخرية التي يتبعها الساخرون كمحاكاة الأمور الجدية بطريقة هزلية لإحالتها إلى صور مضحكة عابئة، وكالشعر الحماسي الساخر Mock Heroic والتعريض. ورسم الصور المضحكة والمبالغة فيها أو في عضو ما من أعضاء الجسم.

وكانت السخرية إما منظومة وإما في قالب مقالات أو قالب قصصي أو مسرحيات أو قصصا خيالية مبتدعة كما رأينا عند "لوشيان" الذي تخيل وصف رحلة إلى القمر، وتصور قتالا بين أهل الشمس وأهل القمر، أو كما تخيل "بوالو" معركة تنشأ بين رجلين حول شيء تافه: "منصة الخطابة"، وكما حذا حذوه "بوب" في "اغتصاب الخصلة"، وأخيرا كما سلك صمويل بتلر في أريون، أو جوناثان سويفت في "رحلات جلفر" ، أو لافونتين في خرافاته. وإلى جانب القصص الخيالية، تنبض القصص الواقعية التي تحاكي الحياة بأحداثها كما جاء في "كنديد" لفولتير ومسرحيات موليير وبرناردشو.

وقد اتخذ بعض الكتاب من السخرية مادة خفيفة تشيع في كتابته بين الحين والحين كالملح يصلح القليل منه الطعام ولا يقصد إليها قصدا بل تظهر في ثنايا جمله من غير تعمد، والبعض الآخر قد ركبه شيطانها وطغت عليه حتى كان في أغلب كتابته أو مؤلفاته ساخرا، وكأنما قد أصبحت مادة أصيلة في دمه وفي عقله الباطن. أما الفريق الأول فمنهم لي ساج.

وأما الفريق الثاني فيتقدمهم رابليه الذي كان يقول إن الفكاهة والسخرية هما وحدهما السبيل إلى نجاة العالم وتخليصه من شوائبه، ولذلك يطلق على هذا المذهب "المذهب البانتاجريلي" نسبه إلى مؤلفه العظيم، ومن أئمته فولتير وسويفت وشو الذي نظر إلى العالم بأجمعه تلك النظرة الساخرة ففلسفها بقوله: "والدنيا إحدى نكات الله".

وهكذا يمكن أن نفرق بين نوعين من السخرية من ناحية الكم – إذا سمح لنا التعبير الأدبي بذلك – أما من ناحية الكيف: فقد اختلفت درجة السخرية عند الكتاب: فكانت عند بعضهم خفيفة رقيقة هادئة، وعند بعضهم الآخر قاسية عنيفة لا ترحم، فمن النوع الأول كان باسكال في خطاباته الريفية، وأوستن Jan Austen، ولي ساج Le Sage ومن النوع الثاني جوستاف فلوبير.

ونستطيع أن نميز أيضاً بين سخرية ضاحكة مستبشرة متفائلة يحيطها الكاتب بسياج من الفكاهة وهي الصفة الغالبة على أكثر الكتاب الأمريكيين الساخرين مثل واشنطن ارفنج ومارك توين، وهناك مثل آخر من الأدب الألماني هو جوزيف بروسيير مريمي والسخرية الأخرى التي تقابل ذلك هي السخرية الجادة الرزينة المتشائمة كما ظهرت عند سويفت.

ونستطيع أن نميز بين السخرية السطحية التي يدركها القارئ العادي في عجلة ودون حاجة إلى إعمال الفكر وبين السخرية العميقة التي تعدو فطنة القارئ العابر وأغلب الكتاب ينتظمهم النوع الأول وهم فريق يعملون على اجتذاب القراء إلى استساغة سخريتهم وإلى الوصول إلى غايتهم ومأربهم من أقرب سبيل.

أما النوع الثاني فيشتهر من بينهم صمويل بتلر، ولذلك قال عنه النقاد "ولذلك لم يظفر بإعجاب عامة القراء ولم يعجب به إلا الخاصة المثقفة". ومع ذلك فلا نستطيع في كثير من الأحيان أن نعثر على كاتب يتخصص في نوع واحد من الأنواع السابقة أو تغلب على سخريته صفة واحدة، بل إن الكاتب ربما استخدم هذا النوع أو ذاك وفقا للموضوع الذي يكتب فيه، أو وفق الحالة النفسية التي تسيطر عليه في أثناء كتابته.

وقد تأثر كثير من الكتاب الساخرين بظروف حياتهم أو تكوينهم الخلقي أو الخلقي والنفسي فصبغ حياتهم بصبغة السخرية، وصبغ سخريتهم بصبغة ما: فالكاتب الروماني جوفينال كان موتورا، عانى في نشأته الأولى كثيرا من الاستخفاف والاحتقار، حين اضطره فقره إلى الاعتماد على بعض السادة من الأغنياء يفيء إلى ظل حمايتهم، وينال عطاءهم لقاء شهره، وقد علم أن له من المواهب والذكاء ما يفضل به هؤلاء السادة الذين يتفضلون عليه بما يقيم أوده، فترك ذلك في نفسه مرارة لاذعة.

وكذلك كان جونسون سقيما في طفولته، طالما عانى من الأمراض الرمدية أما جسمه فقد اصطلحت عليه الأمراض العصبية والتشنجية، وكان بوب سقيماً وكانت حياته – كما ينعتها – مرضا طويلا: فقد كان عاجزا عن أن يرتدي ملابسه بغير مساعدة، وكان شديد الحساسية بالبرودة إلى حد أنه كان مضطرا إلى أن يلبس نوعا مزدوجا من الفراء تحت قميصه السميك وكان أحد جنبيه متقلصاً، ولنحول ساقيه كان يضطر إلى لبس ثلاثة أزواج من الجوارب لا يستطيع ارتداءها إلا بمساعدة، وكان ينتابه مع ذلك صداع منهك يحطم ما بقي من قواه، وقضى بعد وفاة أمه حياة مقفرة لأنه لم يتزوج.

أما جي دوموباسان الكاتب الفرنسي الكبير فكان متشائما سوداوي المزاج ينظر إلى الحياة بمنظار أسود، وقد مات مصابا بالشلل وهو لم يزل في ميعة الشباب. وكان هايني متشائم النظرة، وقد خاب في حبه وكان – على حد تعبير أحد النقاد – في شعره بمثابة من يعترك مع الحياة اعتراكا: ربما كان مصدره مرض أعصابه الذي انتهى به آخر الأمر إلى شلل ألزمه الفراش، وقد أطلق على فراشه إذ ذاك "قبرا من حشايا".

وكذلك كان صنوه الألماني جوزيف فكتور فون شيفيل قلق النفس ناقما متشائما. وكان فولتير – الذي يعد من أئمة الساخرين في العالم أجمع – ضعيف الجسم، وكان له من هزال جسمه ما أكسبه مزاجا حادا عنيفا. وعلة لا تنقطع أسبابها حتى نيف على الثمانين و هو يشكو شكوى متصلة من ضعفه الذي يشرف به على الهلاك.

وكذلك كانت حياة سويفت فقد نشأ يتيما وضاق ذرعا بالحياة في كنف عمه ومن كان يعمل تحت امرته. ولم ينل مأربه أو ما يكافئ نبوغه وقضى الأعوام السبعة من عمره في وحشة ويأس من الحياة شديد.

ونستطيع أن نعدد أمثلة أخرى فنضرب المثل ببرناردشو ومارك توين، أي أن الألم هو المنبع الأصيل في أغلب الأحيان للسخرية.

وعرفنا مما سبق أيضا أن بعض الساخرين كانوا يهاجمون – بسخريتهم أشخاصا معينين خصوما لهم أو أعداء كما سلك جون دريدن مع الذين حقدوا عليه بسبب تنصيبه أمير الشعراء.

وهناك آخرون كانوا يحاولون مهاجمة عيوب المجتمع ويحاولون إصلاحها، ولعل زعيمهم في ذلك موليير وبرناردشو. وأخيرا أدركنا فائدة السخرية وأثرها في المجتمع الأوربي وإلى أي حد طغى تأثيرها كما فعل سيرفانتيز في اسبانيا بل في أوربا كلها، وشارل ديكنز في انكلترا، بل ليس بخاف علينا ما فعله كتاب المسرحية إبان احتلال الألمان فرنسا في الحرب العالمية الثانية وكيف بثوا بها روح المقاومة وأشعلوا الوطنية الصامدة.


***

3- في الأدب الجاهلي:

وإذا حاولنا دراسة السخرية في الأدب العربي فيحسن بنا أن نلتزم المنهج التاريخي فنبدأ بالبحث عنها في الأدب الجاهلي: نبحث عن الألفاظ التي تدل على السخرية، وعن الشواهد التي تبين سخرية الجاهليين.

أما الألفاظ التي تدل على معنى السخرية فقد نثرت في الأدب الجاهلي، وأوردتها معاجم اللغة دون العناية بإيراد الشواهد التي تجلو دلالتها، وقد قرأت أغلب المصادر ووقفت منها موقف الشحيح ضاع في الترب خاتمه علني أهتدي إلى مقدار كاف من الشواهد، فلم أعثر إلا على هذه الأمثلة:

قال عبيد بن الأبرص:


وساخرة مني، ولو أن عينها *** رأت ما رأت عيني من الهول جنت
أبيت بسعلاة وغول بقفرة *** إذا الليل وارى اللحن فيه أرنت

وقال عبد المسيح بن عسلة العبدي:


فأما أخو قرط – ولست بساخر- *** فقولا له : يا اسلم بمرة سالما

وقال الراعي النميري (وهو الذي عاش في بيئة شديدة القرب من البيئة الجاهلية):


تغير قومي ولا أسخر *** وماحم من قدر بقدر

وبلفظ التهكم قال عامر المحاربي:


يغني حصين بالحجاز بناته *** وأعيي عليه الفخر إلا تهكما

وقال حسان يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:


بني أم البنين ألم يرعكم *** وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء *** ليخفره ، وما خطأ كعمد

وذكر الزمخشري هذا الشاهد في أساس البلاغة:


تهكم عمرو على جارنا *** وألقى عليه له كلكلا

وبلفظ الهزء قال عبد الله بن سلمة الغامدي:


على ما أنها هزئت وقالت *** هنون ، أجن؟ منشأ ذا قريب

وبلفظ الضحك قال عبد يغوث:


وتضحك مني كهلة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا


***

أما الأبيات التي تدل على سخرية الجاهليين، فهي قليلة عثرت منها على هذه الأبيات:

فمن ناحية الاستخفاف، قال امرؤ القيس – لما فرقت بنو نبهان عليه فرقا من معزى يحلبها أنشأ يقول تنديدا واستخفافا:


إذا ما لم تكن إبل فمعزى *** كأن قرون جلتها العصى
إذا ما قام حالبها أرنت *** كأن القوم صبحهم نعمى

وقال قريط بن أنيف المزني يتهكم بقومه:


يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته *** سواهم من جميع الناس إنساناً

وقال الجميح:


فدى لسلمى ثوباي إذ دنس الـ *** قوم وإذ يدسمون ما دسموا

قال ابن الأنباري : وتفديته أمهم استهزاء بها وبهم.


تشحذ بالدرع والخمار فلا *** تخرج من جوف بطنها الرحم

وقال زهير:


فتغلل لكم مالا تغل لأهلها *** قرى بالعراق من قفيز ودرهم

قال يعقوب: هذا تهكم وهزء. وقال الأصمعي وهذا تهكم منه أي استهزاء.

ولا يمكن الاستدلال من هذه الأمثلة القليلة على الألوان أو أساليب السخرية التي انتثرت في الأدب الجاهلي، وكذلك لا يمكن القطع بأن السخرية كان لديهم قليلة أو ضعيفة، ولكنها ضاعت مع هذا الشعر وهذا النثر الذي ضاع ولم يصلنا منه إلا القليل؛ كما قال عبد الصمد بن المفضل الرفاشي: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون: فلم يحفظ المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.


الباب الثاني


نحاول الآن أن نؤرخ للساخرين في الأدب العربي وقد شهد الكثيرين منهم، غير أن بعضهم قد ضاع معظم أدبه الساخر، ولم يبق منه إلا القليل.


السخرية في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي :

وسوف ندرس ها هنا السخرية في العصر الأموي وقد كان فارسها المجلى الشاعر الكبير جرير، الذي يعد بحق رائد السخرية في الأدب العربي، وسنقدم له بمقدمة نتناول فيها حسان والحطيئة شاعرين ساخرين ظهرا قبله.


1


حسان والحطيئة:

ظهر في صدر الإسلام شاعران كبيران يعدان أستاذين لشاعرنا جرير إذ يكون معهما مدرسة هجائية ساخرة. وقد كنت أود أن يصلنا من شعرهما قدر كبير يصلح للدراسة وتبين مذهب كل منهما، ولكن معظم هذا الشعر الساخر قد ضاع فيما ضاع من كنوز فنية.

أما أولهما وهو حسان بن ثابت فلم يرو الرواة عن حياته ما يجعله منبعا فياضا لطائفة كبيرة من شعر السخرية، غير أننا نعثر له على شعر ساخر امتد أثره إلى مخيلة جرير فتأثر به. فمن ذلك ما قاله لقبيلة جذام:


لعمرو أبي سمية ما أبالي *** أنب(1) التيس أم نطقت جذام
إذا ما شاتهم ولدت تنادوا *** أجدي تحت شاتك أم غلام


فهذه سخرية لاذعة، وتصوير لحالهم حينما يولعون بالحيوان هذا الولوع إلى حد أنهم يفرحون كل الفرح لما تلده الشاة ، وكذلك تكمن السخرية في رميهم بإتيان الشاة وتهكمه بهم: إذا قد يظنون أن الشاة قد علقت من أحدهم بغلام! وتنبع السخرية من الفعل "تنادوا" الذي يصور فرحتهم ودعاء بعضهم بعضا، ثم من الاستفهام في الشطر الثاني من البيت الثاني !

وقد كثر هذا المذهب من التهكم والتصوير الضاحك في شعر جرير، كما سوف نرى حين الكلام عن جرير.

ويهزأ بهم قائلاً:


قوم تواصوا بأكل الجار كلهم *** فخيرهم رجلا والتيس مثلان
لو ينطق التيس ذو الخصيين وسطهم *** لكان ذا شرف فيهم وذا شان


وقال فيهم من مقطوعة :


فما منك أعجب يا بن استها *** ولكنني من أولى أعجب
إذا سمعوا الغي آدوا له *** تيوس تنب إذا تضرب
ترى التيس عندهم كالجواد *** بل التيس وسطهم أنجب !
فلا تدعهم لقراع الكماه *** وناد إلى سوءة يركبوا !!


أما معاصرة الحطيئة فقد طار صيته في الهجاء الساخر، وشهر بيته اللاذع الذي يخاطب به الزبرقان:


دع المكارم ! لا ترحل لبغيتها *** واقعد ! فإنك أنت الطاعم الكاسي !


وقد كان أطول باعا من حسان في السخرية التي لم تكد تفارقه في أغلب هجائه:

ولعل دارس شعره وحياته دراسة دقيقة يفطن إلى عوامل ثلاثة طبعت شخصيته بطابع الساخر: أولها عدم اهتدائه إلى حقيقة أبيه أو كونه "ولد زنا" كما كانوا يعبرون ، وقد لازمته تلك العقدة طوال حياته، وجعلته يحقد على المجتمع الذي عاش فيه، سواء أكان مجتمع أسراته وأقاربه الأدنين، أم المجتمع الأكبر، واعني به قبيلته التي انتسب إليها ، أو المجتمع العربي كله، ولهذا سلط سوط هجائه على هذا المجتمع برمته. أما العامل الثاني فهو حرمانه ميراثه، وإحساسه بالظلم والفقر ينشب فيه مخالبه حين كان إخوته الآخرون يستمتعون بالمال الموروث! وأما العامل الثالث فهو قبح منظره الذي شهد به المؤرخون الذين أرخوا لحياته؛ وما فتئ قبح المنظر أو تشوه الجسد عاملاً خطيرا من العوامل التي تطبع الشخص بطابع ما ومحاولة تغطية هذا القبح بالتعالي على المجتمع بالسخرية، وقد ذكرت عدة أمثلة تبين ذلك في مقدمة ديوانه الذي حققته.

كل هذا إذن قد أذكى في نفسه تلك المنحة السماوية التي عوضه الله بها عما فقد، وأعني بها المقدرة البيانية، فأخذ يستعين بها على مهاجمة المجتمع، وكان المجتمع لا يفتأ يضحك منه ومن مفارقاته، وحاد عن سبيل كثيرين ممن كرههم هدفاً لسخريته، ولعل زوج أمه هو أول من سدد إليه سهامه.

فما قال فيه ولم يضع عبر الزمن:


فنعم الشيخ أنت لدي المخازي *** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي !


ونلحظ أنه هنا فطن إلى "المقابلة" وأثرها في السخرية وقد أولع بها جرير فيما بعد كثيرا، وكذلك في التهكم باستخدام ألفاظ المدح في موضع "الذم" وعكسها.

ويلجأ إلى الأسلوب الهادئ في السخرية بالتساؤل أو ما يطلق عليه "تجاهل العارف" كقوله لقدامة العبسي:


فخرتم ، ولم نعلم بحادث مجدكم *** فهات ، هلم بعدها للتفاخرا
ومن أنتم ؟! إنا نسينا من أنتم *** وريحكم من أي ريح الأعاصر
متى جئتم؟ إنا رأينا شخوصكم *** ضئالا ، فما إن بيننا من تفاكر
وأنتم أولى جئتم مع البقل والدبا *** فطار، وهذا شخصكم غير طائر !


ويظهر عابثا بالوليد بن عقبة في حادث شربه الخمر أيام عثمان بن عفان فيورد القصة بحذافيرها كأنه مجرد واصف يصف ما أمامه، ثم يبث في أثنائها ما يشتم منه روح السخرية.

يقدم لقصته بهذا البيت:


شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر


فيوحي بأنه سوف يقف إلى جانب الوالي، وينفي التهمة عنه؛ ولكنه يفاجئنا بقوله:


نادى – وقد قضوا صلاتهم *** أأزيدكم؟ ثملا ! وما يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر !
فأتوا أبا وهب ولو فعلوا *** وصلت صلاتهم إلى العشر !


فنحس السخرية تكمن في عبارة "ليزيدهم خيرا". وفي الشطر الثاني من البيت الثالث. وهو لا يكتفي بهذا، بل يعلق هازئاً بتصويره جوادا مندفعا، ولولا كبحه لاستمر في عدوه:


خلعوا عنانك إذ جريت ولو ** خلوا عنانك لم تزل تجري


وسخر الحطيئة بعتيبة بن النهاس العجلي زعيم بكر في الكوفة حينما سأله عن أشعر الشعراء ، فإذا به يفاجئه ليشفى نفسه وينتفم من بخله قائلا:
أشعر الشعراء الذي يقول:


ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ، ومن لا يتق الشتم يشتم !


فقال له عتيبة – وقد فطن إلى لذع الحطيئة - : "أما إن هذه الكلمة من مقدمات أفاعيك!"(2).

ولعل روحه الساخرة من كل ما حولها قد ظهرت بوضوح في وصيته التي زعم الرواة أنها حدثت، وبالغوا فيها، وقد سيطرت عليه روحه الماجنة (3) في أيامه الأخيرة كما سيطرت عليه طوال حياته: طلبوا منه أن يوصي بشيء للمساكين ، فسخر أو تماجن قائلاً: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لا تبور ! وحينما سألوه أن يعتق عبده قال متماجناً: اشهدوا أنه عبد ما بقي!



2


جرير:

هذا الشاعر اليربوعي التميمي قد ولد بين سني 30، 33 هـ وعمر حتى سنة 114 وقضى الجزء الأكبر من حياته في مرابع تميم وبخاصة قرية "أثيفية" إحدى قرى الوشم باليمامة وزار البصرة والكوفة ودمشق عدة مرات وكان نصيب الأولى من زياراته وإقامته أوفر من غيرها.

وقد عملت الوراثة والبيئة عملها في طبع هذا الشاعر بالسخرية: ولد لسبعة أشهر فكان لهذا أثره في طبعه بالحساسية(4) وولد لأبوين يجتمعان في جد واحد فزاد هذا من وراثته ما في الأبوين من عيوب خلقية وخُلقية، تلك العيوب التي يومئ إليها من بعيد أو قريب حمق خاله معرض، وشح أبيه وقصره واشتهاره بأنه كان مضعوفا، وفحجه – أي التواء قدميه- كل ذلك أصاب جريرا ولا شك بالشعور بالنقص، ذلك الذي زاده ضعة قبيلته الدنيا "كليب" ولا شك بالشعور بالنقص بأنها – لفقرها ودنامتها- بعر الكبش! ولقد زاد من تلك الحساسية وقوف جرير – الذي كان قصيرا دميما ذا غنة – وقوفه يطاول ويفاخر الفرزدق أكبر شاعر تميمي بل أكبر الشعراء في زمنه، والذي طالما باهى وفاخر بحسبه وقوة محتده: كل تلك العوامل قد تضافرت وامتزجت بكيانه حتى صيرته الشاعر الذي يأبى أن يعترف بنقصه سواء ذلك الذي يرين على نفسه أو يبدو واضحا جليا في خلقه، بل يتملكه الروح الساخر الذي يفطن إلى متناقضات الحياة حوله فيتحول من الضعف والاستكانة إلى فارس يمسك بيديه سلاحا فتاكا هو سلاح السخرية!!

وقد ظهر شعوره بالنقص من خلال قولة له في معرض الموازنة بينه وبين الفرزدق بعد أن روى نادرة تدل على حقارة أبيه عطية: "فكيف برجل يريد أن يسامي بني دارم بهذا؟ وقد ظهر هذا الشعور أيضا حينما نأى عن الفخر بكليب قبيلته الدنيا إلى الفخر ببني رياح قائلاً:


أتوعدني وراء بني رياح *** كذبت لتقرن يداك دوني !


فقال له بنو كليب – وقد شعروا بذلك – ما هجانا أحد قط بأشد مما هجوتنا به، حين استوى لك أن تقول: وراء بني كليب فرغبت عن آبائك إلى أعمامك !

إذن شعر جرير بالنقص أمام خصمه المتعالى الفرزدق ، ذلك الذي احتقره ونظر إليه دائما راعيا حقيرا لا يملك الإبل، بل النقاد كغيره من الفقراء:


فيا عجبا ! حتى كليب تسبني *** وكانت كليب مدرجا للمشاتم


فحنق جرير على هذا المجتمع المتعالي الأرستقراطي الذي يمثله الفرزدق وكان صاحبنا يمثل الديمقراطية الشعبية المتواضعة التي أخذت تحاول إيجاد مكان لها في مجتمع تسيطر عليه طبقة المجتمع المتعالية بحسبها ومحتدها، وهي التي توارثت عن الجاهلية، وحاول الإسلام إزالتها بمثل قول النبي (ص): لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". سخر جرير من هذا المجتمع المتعالي في شخص الفرزدق الذي التحم معه في معركة هجائية حامية الوطيس لم يشهد لها الأدب العربي مثيلاً، تلك المعركة التي استمرت نصف قرن تقريبا (65 – 114 هـ).

لعل جريرا لم يكن مفلسا بهذا المعنى الكبير، ولكنه كان البؤرة التي تتجمع فيها إحساسات الشعب أو المجتمع، فيعطى القدرة على الكلام أو التعبير فيتكلم، ويترجم عما أحسه مجتمعه "وما ينوء به من آلام وعلل، ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن شاعرنا قد ورث الإحساس بالظلم الاجتماعي عن اجداده منذ القدم: هؤلاء الذين تسلسل فيهم هذا الشعور بالظلم الاجتماعي، فأخذ ينتقل من أب إلى ابن إلى حفيد، حتى تركز في مثل هذا الشاعر الذي منحه الله جهازاً عصبياً حساساً شحن بالآلام منذ قديم الزمان، ثم انعكست عليه آلام مجتمعه البدوي ثم الحضري الذي عاش فيه، فكانت أخيراً عود الثقاب الذي أشعله بالسخرية، يحاول بها تكبير عيوب هذه الطبقة التي تزعم لنفسها الكمال والعظمة والمجد وتدوس باقدامها بقية مجتمعها الضعيف المهضوم، معتمدة على أن ما تمتلئ به من عيوب قد غطاه ستار المجد الزائف الكثيف.

وليست العيوب التي سدد إليها جرير سهامه عيوبا شخصية في الفرزدق أو الأخطل أو غيرهما، بل هي عيوب اجتماعية تتمثل وتظهر في المجتمع الخاص أو الأسرة التي ينتمون إليها، وهناك عناصر مشتركة في هجائه الأشخاص المختلفين: كالعنصر النسائي الذي استند إليه استنادا كبيرا بحق وبغير حق، وهناك عناصر غير مشتركة كالنصرانية التي تميز بها الأخطل، والفسوق والفجور اللذين اشتهر بهما الفرزدق، ودقة الأصل ولؤمه وهما ما عرف بهما بنو التيم، والعور الذي عير به الأعور النبهاني.

وأما الفرزدق: فقد رمى جدته قفيرة بالزنا وقفيرة هذه أم لجده صعصعة، وكان لصعصعة عبيد قيون منهم جبير ووقيان وديسم، فلذلك جعلت مجاشع قيونا واتخذ جرير من هذا مادة لسخريته، كما في قوله ذاكرا غالبا أباه:


وجدنا جبيرا أبا غالب بعيد القرابة من معبد


ويتحدث عن بني مجاشع دائما بالقيون، كأنه قد أصبح اسمهم حقا، وأنه لا ينكره منكر. ولما وصف غالب أبو الفرزدق بانه مثل "حوق الحمار" وأنه كان يقبقب كالبعير كلما تكلم، التقط هذه التسمية ونعت الفرزدق بها، ضاربا صفحا عن اسمه الحقيقي، فكأنه لا يعرف إلا بحوق الحمار:


وإذا فخرت بأمهات مجاشع *** فأفخر "بقبق" واذكر النخوارا


***


وكان جرير كثيرا ما يستعمل الألفاظ التي تدل على الاستخفاف، لإبهامها، ولموسيقاها مثل جوخى (5)، وخجخج (6)، والنخوار(7)، والجيثلوط(8)، وخضاف أو خيضف(9)، وقذام (10)، ورغوان وشعرة، وزبداستها، والجلوبق (11)، وهذه أمثلة لما قلت، ونلاحظ ما تشعه الألفاظ بموسيقاها ورنينها من إحساس بالهزء:


لقد كان يا أولاد خجخج فيكم *** محول رحل للزبير ومانع
فإن مجاشعا – فتبينوهم - *** بنو جوخي وخجخج والقذام


ولعل إيحاء الألفاظ السابقة لا يكون بالقوة التي كان بها في عصر جرير، ولكننا إذا تصفحنا المعاجم استطعنا أن نستشعر إيحاءها، بالإضافة إلى موسيقاها، فعلى الرغم من أنها تشتمل على الحروف التي تنفر منها الأذن ولا تحبها كثيرا كالخاء وبخاصة إذا اجتمعت مع الجيم في مثل جوجي وخجخج، أو إذا ما تكررت في كلمة واحدة، وكذلك حرف الثاء والطاء في جيثلوط، والضاد والطاء في ضوطر، والجيم والقاف في هذه اللفظة المستطيلة جلوبق:


رجوتم يا بني وقبان موتى *** وأرجو أن تطول لكم حياتي !
إذا لاقى بنو وقبان غما *** شددت على أنوفهم العصابا


وقوله:


تلقى بنات أبي الجلوبق نزعا *** نحو القيون، وما بهن نفار !


وهكذا يتخذ جرير من غرابة الألفاظ ووقعها مادة للهزء حتى يبالغ في ذلك فيستعمل ألفاظا ربما لم يعرف معناها كلفظة "الجيثلوط" التي تشع إشعاعا غريبا كأنها تومئ حقا في البيت إلى أن الذي يتحدث عنه مجهول النسب أو المكانة أو كليهما، لأن معنى اللفظة ورنينها الموسيقي منفر بطولها من جهة، وبإنهائها بحرف الطاء، أو بالمقطع الأخير (لوط) من جهة أخرى، وربما كان ساخرا في ذلك كالمعري حينما أطلق على "الجني" الذي زعم أنه التقى به في الجنة اسما يكاد يكون مضحكا بكنية ساخرة طويلة في حروفها، غريبة في وقعها على الأذن "أبو هدرش" كما نعت مجاشعا "بأبي الجلوبق، وإنما هذا يحدث في كل زمن وربما في كل لغة، فقد سمعت أحد العامة يلقب الآخر ضاحكا ساخرا: لا يقصد السباب بل السخرية "يا بن مكله زغل" وليس بالطبع لهذه التسمية أو اللفظة معنى يفهمه الناعت أو المنعوت بها، ولكن إبهام معناها هو الذي ينبع منه السخرية بطوله أو بشكله أو بهيئته.

ولم يسخر جرير بالفرزدق وآله عن طريق الألفاظ ذات الرنين الساخر فحسب، بل سخر أيضا عن طريق الصور المركبة أيضا: فقد عير الفرزدق بأدوات القيون التي يستعملونها، فذكره بها كثيرا – ونسبها إليه ونسبه إليها كما ينسب الابن إلى أبيه، في تركيب ضاحك ساخر: يستعمل أسلوب الأمر التهكمي مرة، وأسلوب التفخيم التهكمي مرة أخرى، والمقابلة مرة ثالثة:


ألا إنما مجد الفرزدق : كيره *** وذخر له في الجنتين قعاقع
كيرك يا أخبث قين عرقا !
هلا حميت الكير أن يخرقا ؟!









ويصور جرير الفرزدق قينا حقا، فيسبغ عليه من سمات القيون ما جعل حدراء خطيبته تتبين فيه هذه الصفة، فتنكره أيما إنكار، وتأبى أن يكون لها قرينا، ثم يدير حواراً – كأنه حدث حقيقة – وذلك لكي يزيد من واقعية الصورة، فيجعل الحوار بين حدراء والفرزدق – مع أنهما لم يلتقيا – كأنه قد تزوجها حقاً:

حدراء أنكرت القيون وريحهم *** والحر يمنع ضيمه الإنكار
لما رأت صدأ الحديد بجلده *** فاللون أورق والبنان قصار
قال الفرزدق رقعى أكيارنا *** قالت وكيف ترقع الأكيار ؟
رقع متاعك إن جدى خالد *** والقين جدك لم يلدك نزار !

ولعلنا نلحظ هنا مهارته في تصوير سلاطة لسان الزوجة في بعض الأحيان حينما تخاطب زوجها فتعيره بأبيه وجده، إذ تفخر هي بحسبها ونسبها، ثم تزيد في سلاطتها وحدتها، حتى تنفيه عن العرب !

ثم زاد جرير في التهكم، فتخيل أنها دعت ربها المصور الذي صور الفرزدق بهذه الصورة ، دعته مستغيثة ضارعة:

دعت المصور دعوة مسموعة *** ومع الدعاء تضرع وجؤار !
عاذت بربك أن يكون قرينها *** قينا أحم لفسوه إعصار !

إن البيتين مشحونان بالسخرية في كل لفظة، فهي مع دعائها قد تضرعت ووقفت منه – تعالى – موقف الضراعة لأمر عظيم، وخطب جسيم نزل بها – أو كاد – وتريد جاهدة أن تتخلص منه. ثم يهزأ به بأن يصفه بكلمة "أحم" وفيها من الاستصغار والهزء ما لا سبيل لوصفه أو لتصويره، بل تحسه الأذن فيبتسم الثغر، ثم يكبر صورة فسائه فيجعله إعصارا! أرأيت إلى أي حد يهزأ به ويقسو عليه؟ ثم ينتهي بالحوار الساخر فتقول له حدراء:

ليست لقومي بالكتيف تجارة *** لكن قومي بالطعان تجار !

وبذلك ترد عليه رداً فخريا مفحما تجعله ينقعر، ولا يحاول أن يلح في طلب يدها. وإذا أضفنا مدى ما يشعر به الرجل من إهانة وخيبة أمل إذا ما تقدم إلى امرأة خاطباً، فيرد عنها خائبا، فيزيد جرير من هذه الخيبة بأن يشيع هذا بين الناس ويذيعه بهذا التهكم المرير، وبهذه الواقعية التي يظنها السامع أنها حدثت حقيقة، إذا عرفنا هذا أدركنا وقع هذا على الفرزدق ومقدار جبنه وخوفه من جرير.

ومما سلكه في السخرية طريقة "المقابلة" فيقابل كثيرا صورة صنع الفرزدق – الذي هو أحد القيون- السيوف بينما جرير وقومه يستخدمونها بعد ذلك في ميدان الشرف والفخار:

كان العنان على أبيك محرما *** والكير كان عليه غير حرام !
إذا صقلوا سيفا ضربنا بنصله *** وعاد إلينا جفنه وجمائله !
فأورثك العلاة وأورثونا *** رباط الخيل أفنية القباب
تصف السيوف وغيركم يعصي بها *** يا بن القيون، وذاك فعل الصقيل
وتنكر هز المشرفي يمينه *** ويعرف كفيه الإناء المكتف !

وهان يمزج بين حادثة "نبو السيف" في أيام سليمان بن عبد الملك، حينما أعطاه بنو عبس سيفا كليلا، فلم يستطع أن يضرب به رقبة الأسير، بينما نجح جرير في ذلك، ومن ثم عيره كثيرا بهذه الحادثة، فهو يقابل ويجمع بين هذه الحادثة التي خزي بها وضحك منه سليمان والحاضرون، وبين كونهم "قيونا" أو رميهم بذلك:

وسيف أبي الفرزدق – قد علمتم - *** قدوم غير ثابتة النصاب !



(هناك مواقف أخرى وأبيات عديدة ذكرها الكاتب لجرير لم أستطع نقلها حيث أن جرير هذا طلع قليل حيا http://www.alsakher.com/vb2/images/smilies/biggrin5.gif )



وهكذا نرى جريرا قد شق لنفسه طريقا معلما في عالم الهجاء الساخر، ذلك الأسلوب الرفيع الذي يشفى المتفنن و الفنان مما به من غيظ مكبوت بلذع أشبه بالسم القاتل الذي يسري في جسم الفريسة من غير ما ضجة ولا ضوضاء وقد ساعده على التفوق في السخرية خيال خصب، استطاع أن يكونه من أربعة عيوب – تلك التي فطن إليها ابن الأثير في المثل السائر – استطاع بعد مزجها بعضها ببعض أن يكون منها الصور العديدة المضحكة، وبهذا فطن إلى إحدى صور السخرية ذات الأثر الرائع وهي التي أسماها برجسون "تداخل السلاسل".

وأخيراً فإن سخرية جرير قد شابها أحيانا العنف الصارخ والالتجاء إلى الصور الجنسية مما يقف حائلاً أمام أدبه إذا أردنا عرضه وتحليله لاستمتاع الناس به، وما زلت أقول صادقا إن جريرا من أكبر الساخرين في الأدب العربي بل في الآداب العالمية، ولولا ما شابه سخريته من صور وألفاظ جنسية لترجمت إلى كثير من لغات العالم.




السخرية في العصر العباسي:

كان للحضارة الأجنبية من فارسية وهندية وسريانية وغيرها تأثير كبير في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا العصر، وكان للأدب – مرآة الحياة في شتى وجوهها – نصيب كبير من التطور: فسرى فيه تيار جديد شمل الأسلوب والموضوعات، وكان لرقي العقلية العربية وازدياد نموها الثقافي واحتكاكها الاجتماعي أثر أي أثر في تطور السخرية وشيوعها، وبخاصة في ذلك المجتمع الذي انتشر فيه الترف ورغد العيش وشاعت فيه الفكاهة والظرف، فلا غرابة أن يظهر العديد من الشعراء والكتاب الذين يتسم أدبهم بالسخرية: كبشار بن برد، وأبي نواس، وحماد عجرد، وعبد الصمد بن المعذل، ومنصور الأصفهاني، والعتبي، والحمدوني وابن الرومي وابن سكرة وغيرهم كثيرون.

أما الكتاب فكان منهم الجاحظ وأبو العيناء وبديع الزمان الهمذاني وأبو العلاء المعري وغيرهم، وكان هناك أيضاً الشعراء المجان الذين خلطوا سخريتهم بالمجون إذ كان غالبا عليهم ومنهم أبو العبر، وأبو غلالة المخزومي الذي اشتهر برثاء حماره طياب، وأبو حكيمة الذي اشتهر برثاء متاعه.

وقد مالت السخرية في هذا العصر إلى الأسلوب البعيد عن الجزالة والرصانة، أسلوب قريب مما يلهج به في أحاديثهم، ولذلك يمكن أن نطلق عليه "الأسلوب الشعبي البسيط" سواء في المعاني أو الألفاظ أو الصياغه، كقول دعبل يسخر من ابراهيم بن المهدي حينما بويع بالخلافة أيام الفتنة بين الأمين والمأمون:

يا معشر الأعراب لا تقنطوا *** خذوا عطاياكم ولا تسخطوا
فسوف يعطيكم حنينية *** يلتذها الأمرد والأشمط
والمعبديات لقوادكم *** لا تدخل الكيس ولا تربط
وهكذا يرزق أصحابه *** خليفة مصحفه البربط !

وشملت سخرية الشعراء التنديد والهزء بمن تدور حوله الشكوك في أصله العربي كقول بشار في أبي عمرو بن العلاء:

ارفق بعمروا إذا حركت نسبته *** فإنه عربي من قوارير !!

وقول أبي نواس في الهيثم بن عدي:

الحمد لله هذا أعجب العجب *** الهيثم بن عدي صار في العرب
كأنني بك فوق الجسر منتصبا *** على جواد قريب منك في الحسب

وتشمل السخرية أيضا ملامح الوجه وغيرها من أعضاء الجسم، كقول منصور الأصفهاني:

وجه المغيرة كله أنف *** موف عليه كأنه سقف
رجل كوجه البغل تبصره *** من أجل ذاك أمامه خلف !
حصن له من كل نائبة *** وعلى بنيه بعده وقف !

وقال بشار في ثقيل :

ربما يثقل الجليس وإن كا *** ن خفيفا في كفة الميزان
كيف لا تحمل الأمانة أرض *** حملت فوقها أبا سفيان

ويتهكم حماد عجرد بعمي بشار، فيقول في أسلوب قصصي ساخر:

إن ابن برد رأى رؤيا فأولها *** بلا مشورة إنسان ولا أثر
رأى العمى نعمة لله سابغة *** عليه إذ كان مكفوفا عن النظر
وقال: لو لم أكن أعمى لكنت كما *** قد كان برد أبي في الضيق والعسر
أكد نفسي بالتطيين مجتهدا *** إما أجيرا وإما غر مؤتجر
أو كنت إن أنا لم أقنع بفعل أبي *** قصاب شاء شقى الجد أو بقر
كإخوتي دائبا أشقى شقاءهم *** والرزق يأتي بأسباب من القدر !

وشملت السخرية الظواهر الاجتماعية ومنها التطفيل فمن أصداء ذلك قصيدة عبد الصمد بن المعذل في رثاء طفيلي مات وقد غص بلقمة ساخنة من فالوذج:

أحزان نفسي عليه غير منصرمه *** وأدمعي من جفوني الدهر منسجمه
على صديق ومولى لي فجعت به *** ما إن له في جميع الصالحين لمه
كم جفنة مثل جوف الحوض مترعة *** كوماء جاد بها طباخها رذمه
قد كللتها شحوم من فليتها *** ومن سنام جزور عبطة سنمه
غيبت عنها فلم تعرف لها خبرا *** لهفي عليك ووبلي يا أبا سلمه
ولو تكون لها "حيا" لما بعدت *** يوما عليك ولو في جاحم طعمه
قد كنت أعلم أن الأكل يقتله *** لكنني كنت أخشى ذاك من تخمه



وسوف أتناول بالدارسة بعض الساخرين الذين اكتملت شخصيتهم الساخرة، ووصلنا من أدبهم ما نستطيع أن نلقي به ضوءا على تراثهم الساخر، وقد وددت أن أضيف إلى عقد دراستي ساخرا من أكبر الساخرين، ألا وهو ابن الرومي، ولكن ديوانه لم يكتمل تحقيقه بعد، ولذلك أرجأت الانتهاء من دراسته إلى طبعة أخرى إن شاء الله.
____________



ابن المقفع

وها هي شخصية من الشخصيات الممتازة الساخرة. تطالعنا في أوائل العصر العباسي، وكان للبيئة من جهة، ولما امتازت به من خصال شخصية مميزة فذة من جهة أخرى، أكبر الأثر في طبعها بطابع فريد نستطيع أن نلمحه بوضوح في قسماتها.

إنها شخصية ابن المقفع الذي كان يسمى – كما يقول ابن النديم – روزبه ومعناه المبارك ولم تعرف السنة التي ولد فيها، ولم يتفق المؤرخون على السنة التي قتل فيها، إذ يحصرونها بين سنتي 143، 145 هـ ، ويحدد الدكتور عبد اللطيف حمزة مولده بين سنتي 106، 107 هـ وقد عاش بفارس، حيث لاءمته بيئتها التي كان يميل إليها بطبعه وجوهره كل الميل، وتشبع بالروح الفارسي والثقافة الفارسية، لذلك فمن الطبيعي أن ينتحل نحلة المجوس.

ولم يعرف المؤرخون الكثير عن حياته الأولى، بل معظمها غامض، غير أنهم يقولون إنه انتقل إلى البصرة التي كانت في ذلك الوقت إحدى العواصم الكبرى التي كان يهفو إليها من تسمو أنفسهم إلى المعالي، وهناك عاش مولى لآل الأهنم، فأخذ عنهم الفصاحة، واستطاع عن طريقهم أن يتصل بأمراء العرب والأعراب، وكان كثيرا ما يستمع إليهم، ويأخذ عنهم العربية الصحيحة.

ولم يلبث قليلا حتى عرف ذكاؤه وقوة قلمه، وحسن كتابته، فاتجه إليه الولاة والأمراء يطلبون إليه أن يكتب لهم في دواوينهم، ويتقلد عندهم بعض الوظائف التي كان يشغلها أمثاله من الموالي في ذلك الوقت، وقد ذكر د. حمزة أن يزيد بن عمر بن عبيرة ربما كان من الأمراء الذين كتب لهم ابن المقفع، وبذلك يمكن أن يكون هذا الوالي وصلة لابن المقفع لأن يطلع على كثير من أسرار الدولة الأموية الزائلة التي كان نجمها إذ ذاك آخذاً في الأفول.

انضمامه إلى العباسيين وإسلامه:

ولما انقضت الدولة الأموية، وجاءت على أثرها الدولة العباسية، أخذ يبتغي الوسيلة للاتصال برؤوسها، حتى تمكن أخيراً من الكتابة لأعمام المنصور: فكتب لعيسى بن علي وإلى الأهواز، ولزم بعض بني أخيه إسماعيل، يؤدبهم ويشتغل بتعليمهم وتهذيبهم، ثم اشتغل كاتباً لأخيهما سليمان. ولما سمع صبيا يقرأ القرآن، أخذته روعته فذهب إلى عيسى بن علي ليسلم فأسلم.

ويتحدث الباحث عن موقفه السياسي فيقول:

إذن كان ابن المقفع من أعداء الدولة العباسية، ومن المتظاهرين في الوقت نفسه بصداقتها، وربما أنه اكتسب الخلق السياسي الأخير من دراسته لتاريخ الفرس. ويظهر أن الخليفة المنصور كان يفهم ذلك عنه، فلم يستخدمه للكتابة له، بل كان له يد طولى في قتله كما كانت له في قتل غيره من زعماء الفرس كأبي سلمة الخلال وابي مسلم الخراساني أو الزعماء المناوئين له كعمه عبد الله بن علي وغيره من العلويين.

ثم يتناول مصرعه وأسبابه التي منها حقد المنصور عليه وشدة نقمة سفيان المهلبي عليه وكذلك كونه رجل فارسي يعمد إلى السخرية من العرب. وكذلك من الأسباب التي قتلته "رسالة الصحابة" وفيها تشريع جديد من عمل الكاتب يقترحه على الخليفة ليعمل به في أمور شتى.. وهي مقترحات خطيرة تتصل بحاشية المنصور وعماله المقربين إليه الذين طعن فيهم من طريق غير مباشر فكانت تلك المقترحات بمثابة ثورة عظيمة قام بها الكتاب ضد النظم القائمة، ووجه فيها الكلام إلى هذا الخليفة الطاغية.
إضافة لسبب آخر وهو "ترجمة كليلة ودمنة" وما أخفى في ثناياه من تعريض بالمنصور، وبما اشتهر عنه من جوره وحبه سفك الدماء.

ابن المقفع المفكر:

كان ابن المقفع صاحب عقلية كبيرة، أبت إلا التفكير المستمر وتسليط أضواء الفكر على كل ما حوله من نظم سياسية واجتماعية وغيرها، فوجدها أمام منظاره المكبر مليئة بالأخطاء فحاول نقدها، ورسم الطريق الصحيح الذي يجب أن يسير فيه المصلحون أو من يدعون أنهم يحبون الإصلاح كالخليفة والولاة، ولم يفتأ يذيع آراء مجاهرة مرة، وبينه وبين من يظن فيهم الولاء له مرة أخرى، وتلميحا مرة ثالثة، وتعريضا مرة أخرى وهكذا.. وليس من السهل أن تقبل الطبيعة البشرية النقد بسهولة أو بصدر رحب، فما بالك بالخليفة، ذلك العربي القح الذي تعود السيطرة وعدم الإذعان لمن هو أقل منه، وبخاصة إذا كان هذا الناقد يشتهر بقلة الدين أو الزندقة، وأنه فارسي ينتمي إلى العنصر الذي ناوأ العرب منذ القدم، والذي يحاول أن يحول دفة الحكم من العباسيين إلى العلويين، أو بالأحرى من العرب إلى الفرس.. كل هذا وذاك كان السبب في عظمة الكتاب من جهة، وكان السبب في مصرعه من جهة أخرى.

ثم يتناول البحث أخلاقه وعصره :

وكان يميزه شيء من خفة الروح والميل إلى المرح والدعابة، ولكن المؤرخين لم يرووا الكثير عن هذا الجانب من حياته: إما لأنه كان يترفع عن التبذل أمام الناس، وإما لأنه لم يعش طويلاً، ولم يجرؤ أحد من عصره على كتابة أخباره لما ذاع عنه من زندقته.

على أن أظهر خصلة بلورت أخلاقه كلها وطباعه هي روح السخرية التي سببها إحساسه وشعوره بالكراهية للعرب الذين أدالوا دولة الفرس وسيطروا على بلاده تمام السيطرة، ومعاملتهم إياهم موالي فلا يفتأون يشعرون بالذلة والمهانة وبخاصة في الدولة الأموية. هذا إلى جانب شعوره بالميزات العقلية والفنية التي وهبه الله إياها، وإلى أنه لم ينل ما كانت تصبو إليه نفسه ويطمح إليه من مناصب عالية في الدولة الجديدة.

كل هذا ولد السخرية في نفسه، تلك السخرية التي كانت تختفي أحياناً في أعماقه، وتطل برأسها في كتابته، وكانت أحيانا أخرى تظهر على لسانه حينما كان يعبث ببعض الناس. ولعل أكبر هدف سدد إليه سهامه اثنان: أحد الحكام في عصره وهو سفيان بن معاوية، والهدف الثاني الذي استهدف لسخريته تلك الأمة التي كان يتعال عليها ويحتقرها في قرارة نفسه، وبخاصة كلما قارن بين ماضيها وماضي أمته.

أما سفيان بن معاوية بن يزيد المهلبي: فلم يورد المؤرخون عنه الكثير، وكل ما نستطيع أن نورده هنا هو أنه قد حقد على ابن المقفع لاتصاله بعدوه وسلفه المسيح الخويلدي. ومما أغضبه أيضاً سخرية الكاتب به، فيروى أن ابن المقفع كان يسأل سفيان عن الشيء بعد الشيء، فإذا أجاب قال له: أخطأت! وضحك منه. وقال يوما لسفيان: ما تقول في شخص مات وخلف زوجاً وزوجة؟! أراد بذلك أن يسخر منه على مسمع من الناس ومرأى. وقال سفيان يوماً: ما ندمت على سكوت قط – وكان ابن المقفع جالساً- فقال : الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟!

ومما أوجع سفيان سخرية ابن المقفع بأنفه- وكان كبيرا- فيروى أنه كان إذا دخل عليه قال: السلام عليكما! يعني بذلك سفيان وأنفه. وإن هذه السخرية من عضو مادي طبيعي باق بقاء صاحبه، لموجعة مؤلمة، لأن أثرها لا يفتأ يعتمل في النفس البشرية ما دامت على قيد الحياة.

ثم يأتي على ذكر مؤلفاته إلى أن يصل إلى ما يهم موضوعنا فيقول:

أما ما يهمنا من كتبه جميعاً، إذ هو الذي يختص به بحثنا، فهو كتاب: "كليلة ودمنة".


كليلة ودمنة: (http://www.alsakher.com/books/kalela.zip)

والكلام كثير حول هذا الكتاب، تكلم عنه الأقدمون وأفاض في الكلام عنه المحدثون، شكوا في هذا الكتاب: أترجمه ابن المقفع كما زعم في مقدمته، أم ألفه؟

لا شك ان المقفع قد قرأه مرة ومرتين وأكر ثم أمعن فيه فكره مرة بعد المرة حتى تمثله في أعماقه فصادف منه هوى لأن يترجمه إعجابا به من جهة ولاتخاذه وسيلة من وسائل التعبير عما نفسه من جهة أخرى.

ونظراً لما ساد من الظلم والعسف والتعذيب أيام المنصور وقتل من يتصدى للمعارضة، كان على ابن المقفع أن ينقد هذا الأسلوب الوحشي الدامي في الحكم، فاستطاع أن يصل إلى مأربه من خلال قصص كليلة ودمنة وعباراتها بالتزيد في هذه العبارات بل وصبغ أسلوبها بأسلوبه، حتى يمكن أن نقول إنها هيكل عظمي اكتسى بأسلوب ابن المقفع، وغذاها بآرائه وأفكاره التي أولجها في عبارات كليلة ودمنة.
إذن لا يمكن أن يكون كليلة ودمنة قد ترجم ترجمة حرفية لم تتدخل فيها روح ابن المقفع وأغراضه، ولا يمكن أن يكون إلا معبراً عن نقد ابن المقفع للملوك وذلك لأن الأديب الساخر الذي يخشى بطش الملوك يستحيل عليه أن ينقد نقدا صريحا بل لا بد له أن يعمد إلى المواربة والأسلوب غير المباشر في النقد كما فعل صامويل بتلر القصصي الإنجليزي وغيره. وإلا لو أظهر نفسه على حقيقتها لتعرض لما يخشى مغبته كما فعل الشافعي حينما سأله المأمون عن خلق القرآن فسخر به قائلاً – بعد تعداده القرآن وغيره على أصابعه: كل هؤلاء مخلوقون (يشير إلى أصابعه، لا إلى القرآن الذي أراده المأمون على الاعتراف بخلقه)، وبذلك نجا من هلاك محقق، ومثله حجر المدرى الذي أمره محمد بن يوسف أن يلعن عليا، فقال- زاعما أن ينفذ أمره – إن الأمير محمد بن يوسف أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه – لعنه الله- فعماها على أهل المسجد، فما فطن لها إلا رجل واحد.

هناك عدة مواضع في الكتاب يذم فيها الملوك وحكمهم بالهوى وتجبرهم، إذ نقرأ حواراً رائعاً بين كليلة ودمنة في ذم صحبة السلطان ينتهي بقول كليلة: أمور ثلاثة لا يجترئ عليها إلا الأهوج، ولا يسلم منها القليل: "صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة".

ومن تحامله على الملوك أو تصويره إياهم بمظهر المصدق للوشايات الغادر بالصديق ما ضر به مثلا لذلك بقصة الأسد والثور، وهي أطول قصة في الكتاب، ولعله قد زاد فيها من الزيادات ما يشفى به غليله، وإني لأعدها أكبر قصة صورت ما يحدث بين الملك وأقرب المقربين إليه، وحين أقرأ شخصية الأسد في هذه القصة أتمثل شخصية أبي جعفر المنصور بعنفه وقسوته حينما قتل الثور في النهاية. ويكاد ابن المقفع ينطق بلسانه مخاطبا أبا جعفر في قصة الملك والطائرة فنزة، قال: "ترحا للملوك الذين لا عهد لهم ولا وفاء ! ويل لمن ابتلى بصحبة الملوك الذين لا حميم لهم، ولا رحيم، ولا يحبون أحد، ولا يكرم عليهم إلا من يطمعون عنده في غناء، أو يحتاجون إليه ، فيقربونه عند ذلك، ويكرمونه فإذا قضوا منه حاجتهم، فلا ود ولا إخاء! ولا البلاء الحسن مجازى عندهم، ولا الذنب مغفور، وليس أمرهم إلا الفخر والرياء والسمعة وكأن عظيما من الذنوب يركبونه، هو عندهم صغير وعليهم هين.."

وأعتقد أنه ليس من المستبعد أن يكون قد مر بذهنه في قصة "الأسد والأرنب التي تخلصت منه" و "الذئب والغراب وابن آوى يهلكون الجمل" أنهما مثالان لانتصار الضعيف على القوى- مهما اوتي من قوة- وسخريته بهذا القوي الذي يشفى غليله منه.

وبذلك تكون السخرية من النوع الذي يطلق عليه الأوربيون "سخرية الحوادث Irony of events أو ما يسمى سخرية القدر التي تجعل الإنسان يبتسم من مفارقات القدر حينما يتجبر شخص ما وإذا به يغلب بواسطة شيء ضعيف ما كان الانسان يظن أنه سيغلب، وحينذاك يبتسم المرء ابتسامة السخرية، وهذا شائع في حياتنا الدنيا.


***

وقد تجلت سخرية ابن المقفع الحقة التي هي أقرب إلى التصريح منها إلى الإبهام في ذلك الحوار الرائع الذي عقده في نهاية قصة إبلاد وإيراخت وشادرم وتتلخص هذه القصة في أن ملكا من الملوك يدعى شادرم غضب على زوجته لأنها هفت هفوة صغيرة، رأى أنها تستحق العقاب فقسا عليها إلى حد أنه أمر وزيره إبلاد بقتلها. فأخذها الوزير بعيدا عن القصر ووكل بها من يعنى بأمرها، ثم رحع إبلاد إلى الملك وقد خضب سيفه بالدم- زاعما أنه قد قتلها، منفذا بذلك أمر الملك.

أما الملك فحينما سكن غضبه على إيراخت الملكة وتذكر جمالها ورأيها وعظم عنائها، وجسيم منفعتها اشتد حزنه، وجعل يقوي نفسه ويتجلد وفطن إبلاد إلى ذلك فأخذ يعزي الملك، ويضرب له الأمثال، ويقص عليه القصص في السلوى والعزاء، وأن لديه النساء الكثيرات وأن لا داعي للحزن على إيراخت فلما سمع الملك ذلك، خشى أن تكون إيراخت قد هلكت:

فقال لإبلاد: أفي سقطة واحدة كانت مني فعلت ما أمرتك به من ساعتك وتعلقت بكلمة واحدة، ولم تتثبت في الأمر؟
قال إبلاد: إن الذي قوله واحد، لا يختلف كلامه عندي، واحد.
قال الملك: ومن ذلك؟
قال الله عز وجل: الذي لا يبدل كلامه ولا يختلف قوله!

وهكذا يبدأ حوار رائع بين إبلاد الوزير والملك شادرم يأخذ الوزير فيه بالعبث بالملك ساخرا منه تسرعه في الحكم وأول شيء يبصره به هو أنه ضعيف بجانب الملك الأكبر خالق كل شيء. وطريقة الوزير في هذه السخرية: هي محاولة الإجابة عن عبارة الملك أو تساؤله (خبرا كان أو استفهام) بواسطة التفريع أو وضع حالة الملك – التي نسبها لنفسه أو نسب نفسه إليها- بين عدة حالات، ثم يثبت له أن حالته هذه التي نسبها لنفسه ليست من بين هذه الحالات التي تكاد تكون الحالات الصحيحة الحقيقية التي اتفق عليها الفلاسفة – بكون إبلاد فيلسوفا مثلهم – ويمكن أن يطلق على طريقته طريقة "التصامم" أو ادعاء الصمم، أو التخابث أو التباله، فهي أشبه بطريقة سقراط التي كان يدعي فيها عدم العلم أو الجهل، فهو أيضاً يدعي أنه لم يفهم أو أنه فهم ولكن قول الملك لا يعول عليه لأنه ليس صحيحا كما يظن ولأنه ليس واحدا من هؤلاء الذين يذكرهم له: فإجاباته فيها تعزية ممزوجة بالسخرية. ونستطيع أن نذكر هذا المثل تبيانا لذلك.

يقول الملك: اشتد حزني لقتل إيراخت!.
يرد عليه إبلاد ساخرا، متصنعا الجد – وهو جد الفلاسفة- اثنان ينبغي لهما أن يشتد حزنهما:


الذي يعمل الإثم
والذي لم يعمل برا قط
لأن فرحمها في الدنيا قليل!

فهو كأنه يقول له: إنك إما أن تكون واحداً من هذين اللذين ذكرت آنفاً، فحينذاك تكون ممكن يعمل الإثم أو ممكن لم يعمل برا قط، وإلا، فلا يحق لك الحزن وهذا شيء كبير بالنسبة للملك، لأنه لا يحتمل أن ينسب إلى أحد هذين الأمرين اللذين ذكرهما الوزير؛ ولا يحتمل أيضاً أن لا يحزن لهذه الفجيعة الكبرى – فجيعة أمره بقتل إيراخت، ولا يحتمل ثالثا أن يخرجه الوزير من هذا الأمر الي هو ظاهر للعيان أن يستحق الحزن، إلى أمرين بعيدين كل البعد عن ذهن الملك – في حالة الحزن الذي يسد المنافذ على الشخص، فلا يجعله يفكر أو يتأثر بشيء غير الذي هو فيه!

وهكذا يستمر في العبث بالملك بطريقة السخرية أو الهجاء غير المباشر حتى إنه لما قال الملك: ما أنا بناظر إلى إيراخت سوى ما نظرت! يرد عليه إبلاد – الفيلسوف- قائلاً: اثنان لا ينظران أبدا:
الأعمى؛ والذي لا عقل له! فإنه كما أن الأعمى لا يبصر السماء ولا النجوم ولا الأرض، ولا يبصر القريب ولا البعيد ولا أمامه ولا خلفه وكذلك الذي لا عقل له ، لا يبصر منفعته من مضرته، ولا يعرف العاقل من الجاهل، ولا الحسن من المسيء!

وهو بذلك يقول له – بطريق غير مباشر- إنك إما أعمى وإما لا عقل لك: فيسبب الملك، وبذلك يزيده حزنا – من غير أن يمنحه الفرصة لأن يغضب ولأن ينتقم منه هو الآخر، وهكذا يتشفى بالملك أعظم تشف حتى يفطن الملك إلى هذا بعد أن يضيق به ذرعاً فيقول له:

إني حقير في عينك يا إبلاد! فيرد عليه إبلاد هازئا- كانه لا يعنيه من أمر الملك شيء بل يعنيه مجرد السخرية به أو أن يظل سادرا في غي حكمته "ثلاثة يحقرون أنفسهم: الذي يهذي بالكلام، ويتحدث مما لا يسأل عنه.. والمملوك الغني وسيده فقير فلا يعطى سيده شيئاً من ماله، ولا يعتد به، والعبد الذي يغلظ لسيّده في القول ويستطيل عليه !

ونلاحظ أنه حتى اعتراف الملك بأنه حقير في عيني إبلاد لا يريد إبلاد أن يوافق الملك عليه أي على هذا الاعتراف- ولذلك يفطن الملك إلى ذلك فيقول: إنك لتسخر بي يا إبلاد!، أي إنني قد هنت عليك إلى حد أنك لم تكتف بتركي وحزني، بل أخذت في السخرية بي .. ويستمر الفيلسوف في لذعه فيرد على عبارته السابقة بقوله: ثلاثة ينبغي أن يسخر منهم.. وهكذا يحير الملك هذه الحيرة العنيفة فيأبي حتى مجرد الاعتراف بأنه يسخر منه!

وقد أظهر ابن المقفع في هذه القصة ضعف الملوك وهم يتصنعون القوة، أمام حوادث تافهة سبياً: كفقد زوجة من الزوجات، وأظهرهم أيضاً بمظهر الحمق والطيش الذي هم عليه، والنقص كغيرهم من البشر بتسرعهم في إصدار الأحكام، قم محاولة الندم على ذلك حيث لا ينفع الندم! وإن هذه الحالة لتذكر بعقدة ألف ليلة وليلة حيث لا نيفع الندم! وإن هذه الحالة لتذكر بعقدة ألف ليلة وليلة حيث تحاول شهرزاد إنقاذ بنات جنسها من ملك طاغية يريد أن يقتلها بسبب وبغير سبب، ولا يبغى من وراء ذلك إلا إظهار قوته المجنونة أو ضعفه أمام نزاوته وشهواته!

وهكذا يعبث بلاد بالملك أشد العبث، حتى إذا ما رآه قد هوى وأصبح في شدة القنوط فاجأه بإظهار إيراخت مرة ثانية، وإنها لعمري خاتمة ساخرة بالملك حتى لو أنه كان قد قتلها حقا، لكان أهون على مركز الملك وأحفظ لكرامته من أن يعنفه بكل هذه الأجوبة الطويلة السامة ثم ينتهي أخيرا إلى إظهارها مرة ثانية كأنه الطفل الغرير الذي عبث به بإخفاء أمه – مصدر حياته – ثم عاد فأظهرها، وكأنه يقول له مربتا على كتفه لاتبك، ها هي أمك قد عادت إليك أيها الطفل الصغير!


***

وأخيراً فإن عبارة من عبارات الفيلسوف في هذا الحوار لا تكاد تخلو من الكلام في الأخلاق وكيف تكون.
وإن طريقة كاتب هذه القصة وكاتب هذا الحوار "التفريعي" لتذكرني بطريقة كان يمارسها الأمير الشهابي- الي كان معاصر لمحمد علي الكبير والي مصر- إذ كان إذا سئل السؤال ولم يعجبه أو لم يرد عليه، تظاهر بأنه لم يسمعه أو لم يفهمه وأجاب – بكل ثبات – على سؤال آخر لا يمت إلى هذا السؤال بصلة وقد اتبع هذه الطريقة مع جميع السياسيين المعاصرين له وبذلك كان يسخر منهم سخرية لاذعة من غير أن يحرك ساكنا.

وليست هذه القصة التي حللتها وعلّقت عليها فيما سبق هي القصة الوحيدة الساخرة في كليلة ودمنة، بل هناك الكثير مما يمكن أن يدخل في هذا النوع من السخرية المسمى بسخرية الحوادث Irony of events مثل "بائع السمسم وسارق الثوب والبر والسارق راكب الشعاع وقصة القدر الذي لا بد أن يصيب الإنسان كالرجل الذي هرب من الذئب في البحر ثم وقع عليه الجدار وإن على رأس هذه القصص اثنتين هما قصة القرد والقيلم وسخرية القرد بأنه ترك قلبه فوق الشجرة وقصة الحمار الذي زعم الثعلب أنه ليس له قلب ولا أذنان.


***

وبعد، فإن هناك كلمة أخيرة في سخرية ابن المقفع: هي أنها سخرية جادة حزينة ، ليست بالضاحكة ولا بالخفيفة، فهي أشبه بأن تكون صارمة؛ وبأن يكون منبعها رجل مفكر عظيم التفكير، ونستطيع أن نطلق عليها "السخرية الحكيمة أو الحكمة الساخرة" وهو لم يسلك في سخريته الأساليب الهازئة المختلفة كأسلوب الأمر والنهي أو الاستفهام أو غيرها من الأساليب التي ذكرت سابقاً، وذلك لأنه يخاطب ملكا غاضبا فلا يستطيع أن يظهر له هزأه في حالة حزنه؛ وإلا قتله، وكذلك فإن كان بصدد أسلوب فلسفي ساخر هو من طبيعة الفلاسفة كابن المقفع ، فلا غرو أن استخدمه ليكون في السخرية والنصح في آن واحد، كذلك فطبيعة ابن المقفع طبيعة الرجل العاقل المتزن الرزين الذي تتجافى رزانته عن أساليب السخرية اللعوب الأخرى.





________________ سامحونا على الدرس الطويل .. انا اعرف انهم يبون تقرير بخط اليد ... ان شاء الله بسويله سكنر حق تقرير مالي و بطرشها للمنتدى .. _________ عيال ثاوية بوظبي .. الدحيحة :(23)::(23):

بسمة أمل }~
21-11-2009, 11:01 AM
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ..

بحث رائع .. استفى جميع الشروط ..

شكرا لك على المجهود الطيب ..

عذرا على إغلاق الموضوع ولتجنب الرود السطحية .. عذار ..

شكر لك مرة أخرى ..

تمنياتي لك بالتوفيق ..

^^